ليس التاريخ مجرد كلمات نسردها , نفهم منها بعضها , ونترك منها ما لا نفهمه الكثير , ولأن التاريخ لا يظلم ولا ينصف , و إنما الافعال في حينها تظلم صاحبها وتنصفه ولو بعد حين, ولكننا حين نذكر التاريخ فعلينا ان نتبع مسار الحياد فيه , فالتاريخ المعتمد هو التاريخ النظيف الذي يخلو من الأهواء والأمزجة ومن عبث العابثين , فكم من أحداث تاريخية رويت , تناقضت في سيرها, ولكن في نهاية الامر هنالك مسار واحد ونتيجة واحدة قد حصلت , وهي التي ننشدها ونبحث عنها.
تركيا... وما يربطنا فيها تاريخيا سوى الخلافة العثمانية , التي تقلصت لتصبح الدولة التركية , وحين نتحدث عن الخلافة العثمانية , نتحدث عن تاريخ يزيد عن أربعة قرون من الحكم والتنفذ والسيطرة , وفيها من الإيجابيات والسلبيات , كالمستوى البياني ما يصعد وما يهبط , بحكم الظروف والمعطيات, ولكن من غير المقبول أن أقيم تاريخ أربعة قرون على نتائج أو مُدخلات العشرين عام الأخيرة من عُمر هذه الدولة الخلافية الاسلامية , وألغي تاريخ سلاطين وأمراء وخلفاء وفتوحات , وأكتب مكانه تاريخ جماعة ضُللت , أو أُخترقت , أو حتى كانت خائنة , كجماعة الإتحاد والترقي , والفكري الأتاتوركي , وما حدث فيه من ظُلم وإستعباد وقهر , و ليس لأننا الأن نُعلن حبنا لتركيا فيجب أن نزين كل شيء , وأن ننسى ما حدث , والاهم أن ننسى كيف حدث , ومالذي جعل جماعة الإتحاد والترقي هم الذين يتولون القيادة وزمام الامور في تلك الفترة.
كثيرا ما سمعنا ان العرب في تلك الحقبة تركت الساحة لجماعات مثل الاتحاد والترقي بالسيطرة وفرض سياساتها , ولن نظلم العرب فلعل المنظمات الماسونية الصهيونية في تلك الفترة كان لها دورها وقدرتها , تماما كما الان تفرض واقعها وسيطرتها على دول عظمى , وفي زمان يُفترض أن لا فيه أسرار و لا ألغاز , وهذا أمرٌ آلفناه في القرن الماضي عن العرب , أنهم يأتون متاخرين دائما , نعود الى تركيا أتاتورك , التي منذ فرض النظام العلماني بوصاية المؤسسة العسكرية , وهم يحاولون سلخ الفكر الاسلامي من وجدانهم ومن مسارات حياتهم حتى يتمكنوا من دخول المنظمة الاوروبية والفكر الغربي , بحيث يُصبحون ساكسونز او نورمانديون أو فايكنج ...الخ , ولكن وكما أثبت التاريخ و وقائعه لنا , أن جميع المحاولات بائت بالفشل , لأن اوروبا لن تقبل وجود شعب يحمل بين ثناياه مارد نائم , إسمه الإسلام , وأحلام بعودة الامبراطورية العثمانية بين السطور , وهذا ما أدى الى إزدياد قوة الإتجاه الاخر , الذي لا يعتبر أن اوروبا هي الهدف الوحيد الذي يمكن لتركيا بلوغه , ولهذا ظهرت في الآونة الأخيرة فئات منظمة وغير منظمة تُعري هذه التوجه نحو الغرب وتُبرز فشله , وتُنمي في وجدان الشعب التركي أنهم شعب عريق وعظيم , وعنده من الإمكانيات والوسائل التي تجعله قادرا على تولي قيادة الامم وتحريك الحجارة بما يخدم مصالحها طبعا , و من الطبيعي ان أهم هذه الركائز والإمكانيات هو الدين الاسلامي والتركة العثمانية فكريا .
في ظل هذه المعطيات ومحاولة الأتراك الراغبين في إعلاء شان تركيا , ما الموقف الذي يُطلب من العرب شعبيا وحكوميا إتخاذه ؟؟ , هل نتعلق بالقشة وبأي جهة تقف أمام أعدائنا ؟؟؟ , هل نحمل على ظهورنا عبء الماضي وسرد التاريخ ونرفض إستغلال أية مواقف تُستجد تخدم مصلحتنا ؟؟, هل كانوا الأتراك أعداء الامس حتى يصبحوا أصدقاء اليوم ؟؟؟, هل نترك الإتجاه الاسلامي يأخذ مجراه الطبيعي في جمع المسلمين على كلمة السواء؟؟؟؟ , هل من الممكن إتخاذ كل الاجراءات والمواقف السابقة ؟؟؟, نعم لا نرمي أنفسنا بين أحضان الأتراك , فلا نعلم ماذا يُخبئ المستقبل لنا و لهم , وبنفس الوقت لا نُغلق الباب في وجههم , خصوصا ان الباب المفتوح معهم يخدمنا ويُحقق بعضاً من غاياتنا , لا ننكر أننا نعشق الابطال , والرجال الرجال , ولا ننكر أن اردوغان بطل , ورجل حقيقي , يرفض لسلالته المهانة , ولا يقبلها لا من اسرائيل ولا من غير اسرائيل , ولعل واقع العرب الذين افتقدوا الأبطال والرموز الرجال منذ فترة يجعلهم يتعلقون بمن مثل أردوغان ؟؟؟ , ولا مقارنة هنا بين من تعلق بحسن نصراللات في لبنان , وبين من يتعلق الان في اردوغان , او حتى صدام حسين او بن لادن , فكل له حالته وكل له مبرراته .
الأسئلة ليست معقدة , والخيارات ليست صعبة , إنما الموضوع يحتاج الى التروي والتريث , وعدم رفض الفكرة و الفكرة المضادة مهما كانت , فمن أراد الذهاب الى آنقرة فلنودعه على أمل اللقاء منتصرا , ومن أراد اغلاق الباب فلنحترم رأيه ولنبقه على الطاولة المستديرة , ومن أراد التوسط , فلندعمه , لست حكيما فيما أدعو له , وإنما انظر الى الجميع في مواقفهم وأحكمُ على خياراتهم من مُنطلق أن لكل مجتهد نصيب , فمن أصاب اصاب ومن خاب خاب , ولكن لا نخون ولا نتفه ونقلل من قيمة أحد , كان معنا في فكرنا أو ضددنا , لأن إختلاف الأفكار والوسائل لا تنفي أننا كلنا في الهم وفي المعاناة سواء.
أُخوةُ الإسلام تجمعنا مع الأتراك , و وحدة الأهداف والغايات هي التي نسعى لان تجمعنا معهم ومع أي شعب أخر في العالم , ألم ننشد أمريكا والروس والصين والإنجليز ليخدمونا وكم خذلونا ؟؟؟ , فما الضير من أن ننشد الأتراك ؟؟؟ , و ما المناع أن نستثمر أموالنا في تركيا كما فعل اليهود في امريكا , حتى يصبح الموقف التركي يخدمنا ويحقق مصلحتنا وليس مجرد تعاطف وإنتظار ردود أفعال , والسؤال الأخير الذي أطلب الإجابة عليه مُشددا ومُتحفزا :
من هم الذين ليس من مصلحتهم وجود أي تقارب وتحالف بين العرب والأتراك ؟
من هم الذين من مصلحتهم أن تبقى الطرق بين أنقرة والعروبة مغلقة ؟؟؟
إذا حصلنا على الإجابة المقنعة الشافية , عندها نحصر خياراتنا في مواقفنا , وعندها نعرف في أي خندق سيضعنا الموقف الذي سنتخذه من الأتراك , ومن هم الذين سيفرحون أو يغضبون بناءاً على نوعية العلاقة بيننا وبين الأتراك , أليس من المعقول أن الجريمة الصهيوينة الأخيرة على سفن الحرية , لم تكن سوى مجرد بارمويتر يريد الكيان الصهيوني من خلاله قياس مدى جدية العلاقة بين العرب والأتراك ؟؟؟ , والتاكد من طبيعة العلاقة ومدى تأثيرها على اسرائيل ونوايا اسرائيل نفسها , وهذا ما اعتاد الصهاينة على فعله دائما .
وتبقى دائما و أبداً الحقيقة أسمى من أي عقيدة مهما انتشرت وفي الفكر رسخت .
حازم عواد المجالي