أهنئ نفسي وكل أبناء الأسرة الأردنية والأمتين العربية والإسلامية بعودة نوارسها الحرة إلى أوطانها. إن نفوسنا تمتلئ وكذا أكبادنا ومقلنا بانطباعات ومشاعر ومشاهد لن تـُنسى وسنحاول أن نبقيها كما هي جياشة, وسنترجمها – بالطبع – إلى أفعال وعزائم وهمم تصب في ذات الغاية التي رسمتها النوارس: فك الحصار عن غزة.
عادت النوارس بلون أبيض تشوبه حمرة, أجمل وأجل حتى من حمرة الدم, إنها لون الحرية الممتزج بالكرامة والعزة. وكانت – كما تتذكرون – قد غادرتنا النوارس بألوان مختلفة, لكن لله در الطيران والتحليق أعلى من الشمس كيف له من تأثير سحري على النفوس فيوحدها , وعلى الآمال فيبعثها وعلى التصميم فيشحذه.
في الحركة بركة, وفي السكون موت. وأحفظ من قول أحد الشعراء (النوارس) القدماء أبيات جميلة:
إني رأيـــت ركــود المـاء يفســــده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الأرض ما افترست والسهم لــولا فراق القوس لم يصب
لكن – بحسب التاريخ القديم والحديث - فإن الجماهير والشعوب النائمة تحتاج إلى صواعق حتى تنفجر عزائمها وتقود التغيير وتحتاج إلى أحداث مزلزلة حتى تنزع سباتها وتُوقظ ماردها الذي تنهار أمامه كل الحسابات وتفشل كل الخطط والتوقعات. هذه الصواعق والأحداث يصنعها – بحسب التاريخ – رواد من ذات الشعب النائم, من ذات الطينة, إلا أن الله شاء وقدَّر أن يختارهم, ثم يقوم بنزع الجبن والهلع من قلبهم الواحد, فيمتشقون أسبابهم, وقد فعلوا - ونِعم ما فعلوا- ونسأل اللهَ لهم القبولَ وأن يجدوه في صحائفهم يوم القيامة إن شاء الله.
هل استيقظ المارد؟ الجواب الشافي لمن أراد جواباً ستراه بعينك في مجالس التهنئة التي شيدها ذوو النوارس المحررة حيث تضيق جنباتها بما رَحُبَت فحشود المهنئين الذين هم بامتياز من الأغلبية الصامتة غير المصنفة ولا المؤطرة تدافعت معلنةً تأييدَها المطلق ورضاها التام بما رأوه من نوارس البحر ورموز الحرية.
الأغلبية المهنئة أيضاً تنظر بالعين الأخرى وبذكاء صامت لردة الفعل الرسمية ابتداءً بالتلفزيون الأردني – الممثل الشرعي والوحيد! – الذي نقل عما يجري في تركيا أكثر مما نقله عما جرى في محافظات المملكة من تضامنٍ مع النوارس وحَنقٍ على ما معاهدة السلام. والله لقد كان تحيلق النوارس ومعركتهم وعودتهم واستقبالاتهم أجملَ بكثير من البرامج التلفزيونية الفاخرة ( إياها ) التي أتحفنا ببثها التلفزيون الأردني خلال أسبوع العزة، وظنّ ( مخطئاً) أن أحداً قد اكترث لقناتنا، لكننا نبشرالقائمين عليها أننا نقفز عنها قفزاً, وسنبقى نقفز حتى يكتشف هؤلاء القائمون أننا (دافعي الضرائب) في واد وشاشتنا في واد آخر غير ذي زرع.
ولن أنهي مقالي قبل أن أسجل العرفان للنوارس التركية المجيدة, وكيف أنهم أصروا بما يملكون من عناد ( أقوى والله من العتاد) أن تكون هذه المعركة لهم وحدهم فلا يشاركهم فيها أحد, الجميع داخل السفينة وهم على السطح وحدهم, لا حاجة الآن للترجمة, وتدور رحى المعركة, ويبث التلفاز الرسمي للعدو عبر الإنترنت وسفاراته في العالم لقطات استحى أن يريها للناس, تظهر كيف كان الأتراك الأبطال يتلقفون جنود ( الكوماندوز !) في الهواء, " فيفعفط" أحدهم كما " تفعفط" الدجاجة ويتدحرج كالحذاء القديم ثم تنهال عليه السواعد المتوضئة ( مصطلح للرافعي رحمه الله ) فتنهال عليه لكماً و"شلاليطاً" (مصطلح سوقيّ) ثم يلقـُونهم في البحر كما يلقون الجيفة. في عُرفنا " البلدي" فإن المباراة قد حُسمت في ثوانيها الأولى حيث سجل الأتراك هدفاً بألف هدف في مرمى العدو (المحترف والمدجج!), وفي المقابل فإن ألف ألف هدف لم يستطع الصهاينة أن يحتسبوه في مرمى الفريق التركي, ولن يستطيعوا بعون الله، وإلى لقاء جديد على نفس الملعب: ألف سفينة ومليون هدف إن شاء الله, وتحيا تحيا النوارس.
م. جمال راتب