ما هو التحضّر ؟ هل هو لباس نلبسه وشهادة نعمل بها؟ أم هو لغة غريبة نتكلم بها؟ أم هو سيارة حديثة نتفاخر بها على الآخرين؟ هل التحضّر أن تحشر بناتنا أنفسهن في بناطيل ضيقة leggings ) ) وملابس فاضحة وأن تغطي الواحدة منهن رأسها بعناية هي أقرب إلى التكلف منها إلى السترة وتحشر باقي جسدها في ملابس ليس لها بالحشمة علاقة؟ أم أن التحضر هو أن نري رؤوس أولادنا ولحاهم بأشكال أقرب إلى الشياطين منها للبشر؟
كانت أمهاتنا إذا مشى آباؤنا يمشين خلفهم بمسافة لا تقل عن عشرة أمتار سواء في السوق أو في غيره من الأماكن ولا ينظرن إلا في ظهورهم ولم يكن لهن خيار غير ذلك وإلا أضعنهم وأي مصيبة تلك فقد كن لا يعرفن طريق العودة إلى البيت ولو عرفنه لما عدن بدونهم. فهل كانت أمهاتنا غير متحضّرات؟
زوجاتنا ( إن خطر ببالهن أن يذهبن إلى السوق برفقتنا وليس وحدهن ) يمشين اليوم بجانبنا وأغلب الأحيان أمامنا وينظرن إلى كل الأماكن ويتفحصن كل المحلات ومعروضاتها ولا يهمهن إن أضعننا أم لا فهن يعرفن كيف يعدن أكثر مما نعرف. فهل هو تحضّر أن تكون المرأة في السوق في مقام الرجل؟
كانت أمهاتنا إذا خرجن إلى السوق غطين نصف وجوههن بشالاتهن وإذا نظر إليهن الرجال ( ونادرا ما كانوا يفعلون ) غطين النصف الأخر بأيدهن. اليوم تخرج بناتنا كاسيات عاريات مائلات مميلات فهل هذا من التحضر؟ وهل يعني التحضّر أن يرى الرجال منهن ما لا يسمح به لآبائهن؟
كانت بنات الحي عرائس المستقبل وشرف الحي، وصيانة عرضهن والحفاظ عليه مسؤولية الجميع. وكان كل شاب في الحي حارس عليهن رقيب على تصرفاتهن يقوّم منهن من يشاء ويدافع عنهن كلهن. اليوم أصبح الحارس ذئبا وكل الخوف منه وإذا رأى اعوجاجا ما استطاع أن يقوّمه وإن حاول أُهين واتهم بالتدخل فيما لا يعنيه هذا إن لم تكن التهمة أكبر. فهل هذا ضريبة التحضّر ؟
في العيد كان أبي يذهب إلى الصلاة ثم يزور المقابر وقبل أن يأتي إلى البيت يزور أهل الحي بيتاً بيتاً، وإذا كان أحدهم غير قادر على ذبح أضحيته يساعده في ذلك ثم يذهب لذبح أضحيته هو، وهذا ما كان يفعله أهل الحي جميعا. اليوم لم نعد حتى نصلي صلاة العيد ونعلل النفس بأنها فرض كفاية أو سنة ولا نزور الناس إلا على مضض، ولا نرغب في زيارتهم لنا ونكتفي بالتهنئة على الهاتف فنحن دائما مشغولون. فهل هذا من مستلزمات التحضّر؟
كنا نزور المريض حتى يملّ منا ونسهر معه ونقدم له الدم إن لزم الأمر في سبيل شفاءه ولا نبخل بالغالي والنفيس عليه ونتكفّل ببيته وعياله حتى يشفى فقد كان حُسن المعاملة له ولأهله جزءا من العلاج النفسي واليوم لا ندري من المريض ومتى يدخل المستشفى أو متى يخرج منها وإذا عرفنا عن المريض عرضا تبجّحنا بأننا لا نريد أن نزعجه والخير أن ننتظر شفاءه ثم نزوره. فأي زيارة تلك؟
جنازاتنا كانت عبرة وموعظة وطريقة لاكتساب الأجر وتذكرة بالآخرة، واليوم أصبحت احتفالية بروتوكولية لا يهتم بمضمونها أو يعتبر منها أحد، ونذهب إلى بيوت العزاء لنتباحث في أمور الدنيا وجبرا للخواطر ونسمع رنات الجوال بصوت أليسا وهيفاء وهبي ونانسي عجرم ونحن في مجلس هو أقرب إلى الآخرة منه للدنيا.ومن النادر أن نقوم بالدعاء للميت والأخذ بخاطر أهله.
كانت سهراتنا نشرة أخبار محلية وهمّنا هو أهلنا وأصدقاؤنا وأهل حيينا، وكانت دواويننا هي ملتقانا وأحاديثنا هي موروثنا ، وقصصنا الشعبي هو محور اهتمامنا. اليوم أصبحنا نبحث عن أخبار العالم والبورصة وأسعار النفط وهمّنا لقمة عيشنا وأحاديثنا عن المطربين والمطربات. فهل هذا نتيجة التحضّر؟
كانت أيام الحصاد فزعات وليالي الصيف سهرات وبيادرنا احتفالات تبدأ ولا تنتهي. أما اليوم فلم تعد هناك ليالي حصاد ولا سهرات صيف ولا يعرف أولادنا شكل البيادر ولا يريدون أن يعرفوا فالتسلية الوحيدة التي يريدونها هي البلاي ستيشن والمحطات التلفزيونية.
في زمن آبائنا كان إن حدث وتشاجر اثنان يُضربان معا من أهاليهما وأهل الحي وكان الذين يفصلون بين المتشاجرين بالعشرات ولا تغيب الشمس إلا وقد تصافت النفوس فلم يكن أهل الخير (وقد كانوا كثر في ذلك الزمان) يبيتون الليل دون تصفية النفوس وإعادة الأمور إلى نصابها. اليوم تبدأ المشاجرة باثنين لتنتهي بأهل الحي كله وربما القرية وما يحيط بها والمدينة وكافة أحياءها ولا يفصل بيننا إلا رجال الأمن ولا ننام إلا في السجون. ويختفي الحليم ويسود زمن الجاهل.
نحن لسنا ضد التحضّر ولكن لا يجب أن يكون التحضّر على حساب عاداتنا وأخلاقنا أو على حساب قيمنا ومعتقداتنا الدينية فليس من التحضّر أن تجلس فتاة في قهوة على ناصية شارع وأمامها شيشة تشرب منها وهي تنظر إلى من حولها بوقاحة وتحد. وليس من التحضّر أن يلبس شبابنا بناطيل ساحلة لا تليق لا بالرجال ولا بالنساء ولا تظهر رجولة ولا أنوثة. لا أعتقد أن التحضّر يعني أن نتخلى عن موروث اجتماعي يمتد لآلاف السنين من أجل أن نستبدله بصرعات المجانين بينما يتمسكون هم بإرثهم .