إن قلب الوطن هو جامعاته ووزاراته ودوائره ودور أيتامه، فلا يمر أسبوع إلا ورأينا أو سمعنا أو التقينا بسيد الوطن، متفقداً رعيته في أماكن عملهم، متابعاً لهمومهم، مستمعاً لشكواهم، محفزاً لهممهم، رافعاً لمعنوياتهم، آخذاً بأيديهم، مخففاً عنهم، موجهاً وناصراً لهم. هذه هي رسالته وإنه لحاملها فأعانه الله وسدد على طريق الفلاح خطاه، وإن لنا به لأسوة حسنة، إن أردنا أن نخلص لمؤسساتنا وجامعاتنا وضمائرنا ووطننا.
من موقع عملي في الحقل التدريسي، احب دائماً أن اسلط الضوء على حال الجامعات، من قبيل النصح وليس التجريح.
إن رئيس الجامعة مسؤول أمام مجلس الأمناء عن إدارة شؤونها، ويمارس مهام وصلاحيات عديدة منها:
تمثيل الجامعة أمام جميع الجهات، الرسمية والقضائية والهيئات والأشخاص، وتوقيع العقود نيابة عنها، وإدارة شؤون الجامعة العلمية والمالية والإدارية. كما يدعو مجلس الجامعة ومجلس العمداء إلى الانعقاد ورئاسة اجتماعاتهما، والإشراف على توثيق القرارات الصادرة عنهما، ومتابعة تنفيذها، بالإضافة إلى تقديم خطة العمل السنوية للجامعة إلى مجلس الجامعة لدراستها ورفعها إلى مجلس الأمناء، وإعداد مشروع الموازنة السنوية وتقديم تقارير عن أداء الجامعة إلى مجلس الجامعة، مبينا فيه مؤشرات الأداء، في مجالات التعليم العالي والبحث العلمي وخدمة المجتمع والأنشطة الأخرى، وأي اقتراحات يراها مناسبة لتطوير الجامعة، وأي صلاحيات أخرى مخولة له بموجب الأنظمة والتعليمات المعمول بها في الجامعة، أو أي مهام يكلفه بها مجلس الأمناء.
إذاً ما بال بعض رؤساء جامعاتنا لا يَرى ولا يُرى؟
هل فرض الواحد منهم الإقامة الجبرية على نفسه، فانتبذ من زملائه والعاملين معه وطلبته مكان قصيا؟
هل فضل بعضهم التحصن خلف الجدران، هاجراً بذلك الدوائر والأقسام؟
هل السبب في هذا الهجر والعزلة هو الخجل؟ أم اللامبالاة؟ أم الفوقية؟ أم أنه عدم القدرة على الحوار الناجم عن فقدان الثقة بالنفس وقلة الحيلة ؟
وهل يمكن تفسير ذلك بأن احدهم وصل إلى ما هو فيه دون أن يكون كفؤا لذلك ففضل الإنطواء، والإنزواء، عساه أن يمضي مدته القانونية وينعم بعدها بتقاعد مريح، انطلاقاً من مقولة \"دارِهم ما دمت في دارهم\"!
هل من المنطق، أو من حسن الإدارة، أو من مظاهر الإخلاص والقيام بواجب المسؤولية خير قيام، أن يُمضي المسؤول عاماً أو أكثر دون أن يجتمع بموظفيه أو أعضاء الهيئة التدريسية في جامعته؟
أليس تواصلهم هو السبيل لتبادل الرأي والمشورة؟
هل من المفيد أن يمضي العام الدراسي، ولا يعلم رئيس الجامعة باحتياجات طلبته أو العاملين في أقسام وكليات الجامعة لديه، إلا من خلال ما قُدر له أن يصل له سراً؟
كم سمعنا عبارة \"قدري قادني إلى هنا\" ؛ لشدة ما يعانيه البعض في مؤسساتهم وما من سميع لهم بها كون رئيسها إما مسافراً أو بعيداً أو منعزلاً أو معرضاً؟
كم تمنينا لو أن هذا الإنشغال كان باعثاً على تحسين حال الجامعات، إلا أننا حصدنا من عُزلتِكم هذه وللأسف تعثراً إدارياً إضافة للتعثر المالي!
أليس هذا ظلماً للنفس وللمؤسسة؟
أليس من الضروري أن يتم وضع ضوابط لعقد اللقاءات المباشرة بين المسؤولين والعاملين، من خلال وضع الأنظمة والتعليمات الخاصة بذلك، لكي لا يخضع الامر لمزاج الرئيس، ورغبته بالتواصل، أم أن الامر للبعض لا يتعدى كونه جلسة تسلية، في ساعة ملل أو فراغ؟ إن التواصل حق للمؤسسة وليس منة عليها باعتباره جزءا هاماً من العملية الإدارية وخاصة في الجامعات؟
من الضروري وضع جداول أعمال للقاءات، وأعقابها بمحاضر اجتماعات، وإعلانها للملأ وبشكل دوري، مع رفع نسخ منها لأصحاب القرار وواضعي السياسات، لكي يطلعوا بموجبها على حال سير المؤسسة، ودقة عملها، وكفاءة وتناغم منتسبيها، واعتبار تلك الوثيقة على أنها مرجع هام في تقييم أداء المؤسسة، كما يحصل في اجتماعات الهيئات العامة للشركات والمؤسسات الناجحة، فاللقاءات لا تكون فقط مع القلة القليلة التي اصطفينا، فجعلناهم المقربين المكرمين المسموعين. فالآخرون مهمون أيضا ولا يجوز إغفالهم أو إنكارهم أو تجاهلهم. ألا يسعدنا أن يعبر كل واحد عن رأيه ويساهم في صناعة القرار فتكون المؤسسة بحق بنياناً مرصوصاً يشد بعضه بعضاً؟
إن تجاهل هذا التواصل فيه إبعاد لمن يجب تقريبهم، وكبت لآراء من الواجب سماعها، ووأد لأفكار من المفترض أحياؤها، ودفن لطاقات من الحكمة إطلاقها .
إن هذا البعد، وتوسعة المسافة والقطيعة والإعراض، من إدارة الجامعة تجاه المدرسين والعاملين والطلبة، لهو طَردٌ وله تبعات سلبية على العملية التدرسية بأكملها! ومن معالم الطرد التي يواجهها منتسبو الجامعات هي:
- التكبر والعنجهية التي يتصف بها بعض رؤساء الجامعات، والتي وصلت لحد أن لا يسمح لعضو هيئة تدريس بمقابلة رئيس جامعته، ففي أحدى المناسبات العامة وعند طلب عضو هيئة تدريس مقابلة رئيسه وأمام الجميع صرخ الرئيس بوجهه قائلاً:
\"لا أريد أن أراك\" ، فهل هذا عامل تفاهم وتواصل وجذب؟ أم طرد وقهر وتحقير؟
- الظلم، والتعسف الإداري، وسوء استخدام نظام العقوبات، والأحكام الغيابية التي يتعرض لها أساتذة بعض الجامعات، وعدم الاكتراث الواضح بهم من قبل الإدارة.
- فقدان العدل في الترقية الأكاديمية والذي كثيراً ما يوصف بعدم الاستقامة، وتبني أشخاص وإهمال آخرين.
- تجاوز الأحقيات بالرتب الإدارية، ومتخذ القرار غير آبه بحقوق الآخرين، أو بقانون كلف بتنفيذه، بحيث قدم الاستثناء على الأصل وهذا ظلم فاحش طارد؟
- تهميش أراء اشخاص مختصين، وتوصيات لجان، وقرارات لمجالس أقسام ومجالس كليات، وضربها بعرض الحائط، مما أدى الى استقالة أصحابها من نواب رئيس، وعمداء، ومجالس كليات، ورؤساء أقسام، وأعضاء هيئة تدريس. اليس هذا دليل على عدم كفاءة المسؤول، وقلة خبرته، وسوء تقديره، وربما قلة استيعابه لحاجة جامعته، ويؤكد على عدم تقديره لجهود العاملين بها، وفقدان لجانب اداري، أجتماعي مهم يتم تدريسه في الجامعات كمساق إسمه \"مهارات إتصال\"؟!
- تعيين أشخاص غير مؤهلين في تخصصات، فشلوا فيها، واعترف بخطأ تعيينهم من رئاسة بعض الجامعات، ودفع زملاء لهم ثمن الفشل، والسمعة السيئة التي ألحقوها بجامعتهم؟
اليست هذه اسباب رئيسية في هجرة اعضاء الهيئة التدريسية للخارج؟ وانهيار بعض التخصصات في جامعاتنا؟ ألم يدفع الطلبة الثمن الأكبر بهذه الحالة؟ وهل يكفي الاعتراف والاعتذار؟ الم يُحرَم طلبة قُبلوا على أساس التفوق الرياضي من حقوقهم في تنمية مهاراتهم بعد التحاقهم بجامعاتهم، ولم يستمع احد من المسؤولين لشكواهم؟ ألم يحرم آخرون من إنشاء نوادي أكاديمية في كلياتهم ولم يأبه احد بهم؟ الم يؤجل طرح مواد تدريسية في حينه الى تعثر تخرج بعض الطلبة دون رقيب أو حسيب؟ الم يعط أساتذة مكافآت بدل إشراف تدريب على الطلبة، علماً بأنهم لم يقوموا بمهامهم حسب الأصول، وأُبلِغ رئيس الجامعة بذلك خطياً ولم يحصل شيء ذو قيمة على ارض الواقع؟
ألم يؤدي صم الاذان عن النصيحة والحوار، الى التفرع والتوسع في غير وقته، فصار اشبه بالتمزق، فأفرغت الجامعات من كوادرها وقُطِعت كُتبها؟ ولم تعد ميزانياتها تكفي لسد الضروري من حاجياتها، حتى نضبت أدويتها؟ فصار حالها الى ضعف بعد قوة، وأُوهِنت التجربة التي كادت أن تكتمل.
لا بد من اجراء جراحة لحال جامعاتنا لا أقول تجميلية بل زراعية جذعية.