في خضم ما يجري على الساحة العربية من تضارب في الآراء وبعد عن الواقع الذي نعيش ، ظهرت تيارات إسلامية ابتعدت عن المهمة الأساسية لها في الدعوة والإرشاد وانطلقت نحو القيادة السياسية باحثة عن إقامة الدولة الدينية متخطية النواميس الكونية في التدرج وأخذ الوقت واعتماد قواعد الخلق بإرادة الله لا خروجا على قدرة الله عز وجل فالسكين في تحركها تجرح والنار عند لمسها
تحرق وهكذا قدر لها الا في خصوصيات بعينها ك آيات ومعجزات.
وبالعودة إلى التيارات الإسلامية التي أرادت حرق المراحل والتعامي عن الحواجز والسنن الكونية التي ذكرنا ففرضت النموذج المرعب من قطع الرؤوس إلى الجلد والجزية وارتداء الحجاب وتحريم الغناء .. الخ متخيلين إن هذا هو فقه الأمة وعقيدتها لمجرد التمكن من قرية أو حي متناسين قول الشاعر
لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها *** إن كنت شهما فأتبع رأسها الذنب
فزجوا بالأمة في أتون معركة خاسرة بكل المعايير خاصة باعتمادهم على أعدائهم متصورين أن الغرب أو الشرق سيوصلهم إلى الدولة الدينية التي ينشدون, فانطبق عليهم المثل القائل ( كالمستجير من الرمضاء بالنار ) ولم يستثمروا فرصة التغيير التي ألهبت مشاعر الشعوب المسحوقة تحت أقدام حكامها.
كان الأجدر بهم أن يتتبعوا الخطوات المرتبطة بالسنن الكونية وحساب ما عنته الآية الكريمة ( ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ) لا إتباع الأحلام والأوهام من المبتدعين وجهلة المتحجرين ممن أسلم صباحا وأطلق اللحية ظهرا وقاد الجماعة عصرا ( ذراعين قماش ولحيه ابلاش ) فلم يدرسوا سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ولم يتعلموا منها. هذه السنة التي كانت ومنذ بداية البعثة تتحرى الأخذ بالأسباب واكتمال المراحل لا حرقها رغم استجابة السماء لطلبه أنا شاء وحيثما أراد, فكان يمر بعمار وأهله وهم يقاسون الأمرين من العذاب فيقول (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) رغم أنه في موقف آخر اجبر أبو جهل أن يفع للإعرابي حقه حين جبنت وعجزت كبار قريش عن ذلك.
يتستر في رحلة الهجرة ويناور ويجتهد في التعتيم على قريش, ليصل إلى المدينة.
ليضع أول دستور مكتوب في ضبط التعامل مع كل مكونات المجتمع المدني مسلمه وكافره , عربا ويهودا , متعاملا مع أصحابه كل حسب إمكاناته مع الشجاع كخالد فكان قائدا عسكريا, ومع الجبان الشاعر المبدع فكان يقاتل بلسانه الأعداء , مع العاطل عن العمل والكسب لكنه ذكي وحفاظ فحفظ الحديث.
وأما ركب الدعاة فقد انتشروا في أصقاع الأرض يدعون لله , مملكة نحل وجه كل فرد فيها لما خلق له. آخذا بعين الاعتبار الواقع الذي كان ,لا الطموح الذي يتمنى, إيمانا منه بالسنن الكونية واحتراما وإجلالا لخالقها, فالله قادر على أن يقول كن فيكون وعلى أن يجعل الناس في كلهم مؤمنين موحدين , لكنه جل وعلا أراد لنا التنافس وان يميز الخبيث من الطيب, وظهر هذا جليا في صلح الحديبية الذي كان في ظاهره ذل وخنوع وفي جوهره نصر وفخار , وقصة المشورة في اختيار موقع غزوة بدر الكبرى وحفر الخندق لدليل على البشرية المنسجمة مع نواميس الكون لا قفزا عنها.
أما بعد اكتمال الدعوة فكان الحكم المدني المنسجم مع الشريعة الإسلامية تحصيل حاصل بانتفاء المعارض أو الجاهل فتقبل الجميع عن رضا واقتناع.
أما والمجتمع اليوم يزخر بإشكال لا حصر لها من التنوع والتعدد في الملل والطوائف وتشابك المصالح والأهواء مما يعيق عملية التحول فلا مجال إلا أن نكون مع احترام الاختلاف لا الخلاف عاملين على ردم تلك الهوة المصطنعة بين أبناء الدين الواحد أولا ومع شركاء الهواء على سطح كرتنا الأرضية ثانيا, وعلى مبدءا الضرورات تبيح المحظورات وإلا نكون كذلك الجاهل الذي طلب من أجنبي اسلم للتو أن يختن والختان سنة, فهرب المسلم الجديد ولم يعد.
وهنا أرجو أن لا افهم بأنني استهين بالفرائض أو السنن لا قدر الله وإنما استرشد بما فعله رسولنا الكريم في صلح الحديبية وسلفنا الصالح في وقف حد السرقة في عام المجاعة.
وهنا لا مانع ابدأ من وصول المتدين للسلطة السياسية ولكن بكفاءته واختيار المجتمع له واعتزازه بوطنه أسوة بالرسول الكريم الذي وقف مودعا لمكة وهو يقول ( والله إنك لأحب ارض الله إلي ولولا أن اهلك أخرجوني منك ما خرجت) وبشخص المستوعب والراعي للجميع لا أن يكون منصهرا في حزب أو طائفة أو عرق كونه أصبح ملك الجميع وللجميع ليضفي الجمال على ألوان فسيفساء ذلك المجتمع وتاركا الفرصة لكل المكون المجتمعي في التنافس من خلال ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه ليقف الجميع أمام أبواب الجنة أو النار كل حسب العمل الذي اختار.