أحاول دائما –كأم- أن أنقل لابني عدوى حب القراءة وعشق أحرف اللغة العربية الثرية بالمفردات المعبّرة والتعابير الجميلة، بما تحمله قوالب اللغة من معرفة وثقافة وفكر وتراث وتاريخ، وبما تشكله من مفاتيح قوة وفصاحة وثقة وجرأة وبيان لحامل أقفالها، وبما ترسخه من جذور انتماء واعتداد وثبات في حقول مالكي ناصيتها.
أقرأ لطفلي كل ليلة قصة من بين مجموعة قصصية كبيرة معدّة للأطفال، حتى استوقفتني قصة بعنوان \"النسر يحلّق\"، وفتحت شهيّتي لأشرح لطفلي إبن السنوات السبع ما أرغب بشرحه لجيل كامل من الأطفال والمراهقين والشباب الذين تم تضليلهم علميا وإعلاميا ومعرفيا وفكريا وثقافيا...
قصة \"النسر يحلق\" مفادها أن رجلا إنجليزيا أقنع نسرا صغيرا بأنه كتكوتا مسالما لا يستطيع الطيران، وأن عليه المكوث مع الكتاكيت على الأرض يأكل الحبوب ناسيا أمر اللحوم وطعام النسور وعاداتها الشرسة، حتى ظهر رجلا مسنا حكيما وراهن الإنجليزي على أن النسر ما زال قادرا على التحليق والطيران، وراح الرجل الحكيم يدرب النسر كل يوم على الطيران ويشجعه على التحليق بجناحيه الكبيرين في الفضاء، ويحثه بحجة أن النسور طيور كاسرة وقوية وجامحة ومكانها في أعلى السماء تحت الشمس؛ لأنها ليست كالكتاكيت المسالمة الضعيفة الصغيرة التي تقنع بخنوع بما يلقى إليها من فتات الحبوب لتقتات عليها بصمت جبان، وبمرور الوقت استعاد النسر قوته ورباطة جأشه وثقته بنفسه وبقدرته على أن يفترش بجناحيه القويين أرجاء الفضاء ليستعيد مكانته المرموقة تحت أشعة الشمس في وضح الكبرياء والحرية والكرامة.
أخذت أشرح لطفلي وأسهبت في شرحي حول مغزى القصة وكيف أن الله وهب كل إنسان منا وكل دولة وكل أمة أسباب قوة ومنعة، ومفاتيح تفوّق وتميز حتى وإن كان لدينا مكامن ضعف ونقاط وهن، وأوضحت له أن قناعاتنا هي من تحركنا فعليا وتوجه خياراتنا وتحدد بدائلنا، فإن قنعنا بأننا كتاكيت عشنا كالكتاكيت وإن آمنا –كالنسر- بقوتنا وقدرتنا على الطيران والتفوق والتقدم تمكنا من بلوغ غاياتنا وتحقيق أهدافنا حتى وإن تطلب منا الأمر أن ننتزع أحلامنا من عين الشمس ومن بين أنياب الصقر.
شاءت الصدف أن تعلن دولة الصهاينة عن دمويتها وقرصنتها ولا إنسانيتها تجاه أسطول الحرية في اليوم التالي، فاغتنمت الفرصة لأمعن في ركوبي أجنحة الحلم وأنا أشرح لابني كيف أن الدول العربية اختارت وبمحض إرادتها أن تلعب دور الكتاكيت على هذه الأرض، بالرغم من أجنحتها الكثيرة والقوية والكبيرة والغنية بالنفط وبالغاز وبالثروات الزراعية والمعدنية، والقوى البشرية والحدود الإستراتيجية والامتداد الجغرافي والأهم من هذا وذاك إرادة شعبها المتكئ على الحق، والمسنود على إيمانه بعدالة قضيته ومشروعية مطالبه بأراضيه المغتصبة من البحر إلى النهر.
شاركنا الطفلُ الحزنَ اللاذع الذي تابعنا به تفاصيل الوحشية التي تعامل بها قراصنة الشرق الأوسط مع متضامنين عزل إلا من الحق والإيمان والإنسانية والشجاعة، كما شاركنا الفخر والاعتزاز بالرجل الحكيم رئيس الوزراء التركي القائد المسلم \"رجب طيب أردوغان\" وهو يرد على مزاعم كبير الشياطين \"نتنياهو\" ويفنّد أكاذيبه، محولا القصة الدموية الإرهابية إلى قضية دولية يمكن لها فعليا أن تفك الحصار عن أهلنا المرابطين في غزة.
كانت الفرصة مواتية عندما سألني الطفل بمنتهى براءة الطفولة وصدقها وعريها من الزيف والتشويه والتزوير: \"لماذا لا يقضي العرب والمسلمون على إسرائيل ويريحونا من مذابحها ومصائبها ووجودها السرطاني في المنطقة؟\".
اغتنمتُ الفرصة بسعادة غامرة لأخبره بأن دول المنطقة وعلى الأخص دول الجوار، اختارت أن تنزوي في قفص الكتاكيت تلعب وتمرح في الفيافي الأمريكية وهي تركض وراء حبات القمح والذرة البلاستيكية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، متناسية حقيقة الأجنحة الكبيرة والقوية التي رفضت وما زالت ترفض وبإصرار غير مفهوم أن تستخدمها في النهوض والطيران، وآثرت ولأسباب خرافية أن تقصقصها بالمعاهدات والصمت والدبلوماسية والإذعان.
أخبرته أن جميع الدول العربية وقّعت على معاهدة \"الكتكتة\" والتي تنص على أن هذه الدول ضعيفة وليس من حقها الدفاع عن حقوقها، وأنها فقيرة اقتصاديا وبالتالي فهي عاجزة سياسيا ومشلولة عسكريا، ولا يجوز لها مجرد التفكير بالتسلح أو المقاومة مهما استفحل الظلم ومهما جاوز الظالمون المدى، ذلك أن العدو الذي نجابهه مخلوق خرافي متناهي القوة وعظيم الشأن وشديد المنعة، له خمسة وعشرون عينا وثلاثة أنوف، وفم كبير وأنياب ضخمة وزوائد عظمية مخيفة وأجنحة شائكة تمتد منها أذرع طويلة تلتف على كل من يحاول مقاومتها.
صاح الطفل: \"وهل هذا حقيقي يا أمي؟\"
أجبته وأنا أضمه: \" أردوغان وقبله أحمدي نجاد وقبلهما حزب الله وقبلهم جميعا حركات المقاومة الفلسطينية والانتفاضة وأطفال الحجارة، جميع أولئك أثبتوا أن هذا الوحش وهمي ومن نسج الأساطير الخرافية، وأن غلبته ممكنة بل وسهلة إن نحن قررنا الطيران وآمنا بأننا نسور لنا الأحقية في التحليق في سماء الحرية والعزة والكرامة، واستخدمنا أجنحتنا التي كسّرناها بأيدي الخوف والاستسلام\".
كم أتمنى أن يأتي يوم أرى فيه الكتاكيت العربية تجلس على مائدة النسور الأبية تتباحث هي وجيرانها من النسور التركية والإيرانية والأحزاب الجادة وحتى النسور الروسية أمر الانقضاض على الذئب الشرس الذي يعيث في المنطقة فسادا وخرابا وتمزيقه إربا والتهاما نيئا بدلا من لهوها المغرق في الذل في أعشاش الكتاكيت المطبعة المسالمة!