كنت على غير العادة... قلقاً وحذراً ومتثاقلاً وأشعر بأشياء كثيرة تقيد حركتي .
لتوي كنت قد انتهيت من توضيب حقيبة السفر بعد أن حشوتها بكافة الأمتعة والأشياء والمُقتنيات التي قد احتاجها هناك في \"شرم الشيخ\" وبعد قليل عدت لاقتحم الحقيبة مرة أخرى لأتأكد أني لم أنسَ شيئاً ، فتحتها وأغلقتها كثيراً ، لا أعلم لماذا ، ولا حتى عن ماذا كنت أبحث بالتحديد ... لكنني متأكد من أنني قد نسيت شيئاً!
جاءني من بعيد صوت (زامور) السيارة التي ستقلني إلى \"مطار ماركا\" فأغلقت الحقيبة على عجل حملتها بيدي واسرعت متجهاً إلى باب البيت ، أغلقتهُ خلفي .. وقبل أن أهبط بالمصعد تفقدتُ جيوب البنطلون والقميص خوفاً من أن أكون قد نسيت شيئاً.. فأنا ما زلت أعتقد ذلك!
اومأت للسائق أن يفتح صندوق السيارة ، وضعت الحقيبة في الصندوق الخلفي واستقريت في الكرسي الامامي بجانب السائق .
بدأ السائق يشكو من أزمة الشوارع التي أصبحت تُشكل له هماً مؤرقاً ، ومن صعوبة الطقس ، ومن ونزق الرّكاب ، وفي كل مرة كنت أقول له بشكل تجاري بحت (بتهون .. الله يفرجها) ولم تكن مداخلتي تروق لسائق السيارة... مما حدا به اللجوء إلى الصمت .
عندما وصلت إلى المطار ووقفنا بجانب مدخل المسافرين ؛ هبط الخوف والأرق في قلبي فجأة ، ولم أعلم ما سبب ذلك .
جاء العامل حامل الحقائب وهو يجر خلفه عربة حديدية تمشي على أربعة عجلات وأفرغ صندوق السيارة من الحقائب والأكياس وذهب بها إلى داخل المبنى.
تبعته بخُطىً مترددة الى أن وصلت كاونتر موظف الجوازات، وقفت في طابور طويل لاتمام إجراءات ختم الجواز ودفع ضريبة المغادرة .. وقد شعرتُ بنشوة فرح كبيرة عندما كنت أدفع ضريبة عن المغادرة..فلماذا المغادرة أصلاً لذا يفترض أن أدفع هذه الضريبة !
بعد قليل كنت قد أصبحت في غرفة انتظار طويلة تُفضي إلى ساحة الطائرات.. ومن بعيد ، جاء بشكله الأبله المستطيل باص نقل الركاب...توجهنا نحوه ، التهمنا دفعة واحدة وراح بنا إلى باب الطائرة التي كانت ترقد في زاوية بعيدة من المطار!
صعدنا درج المطار بهدوء وإذ بنا نلتقي بابتسامة احدى المضيفات التي حملت بين يديها وعاءً فخماً وضعت فيه بعض حبات (الملبس) لترطيب الفم وانعاشه ، لكنها لم تدرك بأن هذا القلب هو من يحتاج ذلك الترطيب والانعاش لتغيير نكهة الحزن العبقة فيه!
أخذت المضيفة الجميلة ومن خلال السماعة تُدلي الينا بالتعليمات التي يجب التقيد بها حفاظاً على سلامتنا .. كانت تتحدث بطريقة جدية بعض الشيء .. دون أدنى محاولة منها في أن تصنع شيئاً من الفرح فقد بدت علامات التوتر باديةً على ملامحها الجميلة ، حتى أن الكحلة التي كانت تحاصر محيط عينيها الناعمتين قد سحلت عن مجرى الجفن قليلاً.
أخذت أتسال عن السبب الذي يجعل مثل هذه المخلوقة اللطيفة الجميلة تبدو بهذه الحالة غير المريحة والنقيض لشكلها تماما ؟ لكني اعتقدت جازما أنه ثمة أزمة عاطفية تجتاج منطقة القلب لديها !
وبعد حفنة دقائق تحركت الطائرة وارتفعت عن الأرض وما إن استقام مسارها حتى راح ركاب الطائرة بالتصفيق وكأن مرحلة الخطر قد انزاحت ولم يعد ما يكدر على الطائرة صفاء طيرانها!
أصبحت تتنقل تلك المضيفة الجميلة بالممر الطولي الضيق المتاح بين مقاعد المسافرين \"المتشائلين\" لتلبي طلبات المسافرين ..وعندما وصلتني نظرت اليّ وقالت لي: اتفضل استاذ محتاج شي؟
قلت لها بعفوية مطلقة وأنا أسند رأسي على مسند الكرسي : أحتاج أن أرى ابتسامتك .. فالحزن لا يناسبك! تفاجأت ثم ابتسمت لي بصدق وذهبت..وأصبحت كلما مرت بجانبي تنظر اليّ وتضحك الأمر الذي دفعني للضحك كثيراً..لكن ما زال يساروني الشك في أنني قد نسيت شيئاً ما!
ومن خلال السماعة مرة أخرى جاءنا صوت المضيفة يخبرنا بأن الطائرة على وشك الهبوط وطلبت منا التأكد من ربط أحزمة الأمان وبكل دماثة.
امتثلت لأوامرها ... وهل هنالك أجمل من أن تنصاع مرغماً لما تقوله امرأة جميلة ؟
هبطنا بسلام... واستقرت الطائرة في مطار \"شرم الشيخ\" الرحب الجميل...
حينما استقرت قدماي على أرض المطار تداركت نفسي فوراً وتذكرت ما قد نسيت..!
لقد نسيت \"قلبي المبتهج\" في عمّان ، فلم يطاوعني بالمغادرة ودفع الضريبة...فهو متيمٌ بعمّان.
(عمّــان) ... وهل ثمة أجمل؟!