ثمة حقيقة يجدها الإنسان المفكر في توعية لذاته، وهي الشعور بقدرته على إخضاع كل شيء لفكره، حالما يتحصن في قلعة شخصه ، و تعزله ملكاته، و يدخل في تجربته الخاصة، في ميادين القلق الروحي و الفكري. فالقلق ليس إلا شكلاً من تجربة المفكر و الأديب، و هو روح الإبداع المتوقد في ذهن الفنان، و الشاعر، و هو سر نجاحنا، أو فشلنا في السيطرة على الطبيعة، وإدراك حقائق الوجود. و في تاريخنا الإنساني ، المفعم بالأسرار، كان للقلق تأثير عميق في حياة الإنسان، منذ وجد على ظهر الأرض، فهو رفيق الأنبياء، و عنوان النبوة في تجربة إبراهيم عليه السلام. فقد نظر في السماء ، فرأى كوكباً، فقال:" هذا ربي" ثم اتبعه ببصره حتى غاب " فلما أفل قال لا أحب الآفلين" ثم نظر إلى القمر ، فرآه بازغاً، فقال:"هذا ربي"، ثم اتبعه ببصره حتى غاب "فلما أفل قال لئن لم يهدن ربي لاكونن من القوم الضالين". فالقلق ، كان التربة الغنية ،التي غذت عملية التذكير في تجربة إبراهيم _عليه السلام_،لكنه فشل في مراحلها الأولى ، فشل في الوصول إلى الحقيقة، وأراد أن يستمر في التجربة الخاصة، مستنداً على إرادته الحرة في التفكير المطلق، و بأنه قادر على مقاومة كل شيء. فلما دخل عليه النهار، و طلعت الشمس قال:" هذا ربي ، هذا اكبر، فلما افلت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض ، حنيفاً وما أنا من المشركين". هذا القلق الروحي، خلق في قلب إبراهيم _عليه السلام_ نوعاً من الوعي المتمرد، جعله يدخل إلى بيت الآلهة، فراغ عليهم ضرباً باليمين. وفي محاكمته العلنية أمام الملك نمرود، قال له: من هو ربك هذا يا إبراهيم، الذي تدعو إلى عبادته ؟! "قال إبراهيم: ربي الذي يحيي و يميت " فقال نمرود: فأنا " احيي و أميت " فقال إبراهيم:" فان الله يأتي بالشمس من المشرق، فات بها من المغرب" "فبهت الذي كفر" فانتصر القلق بقوة التجربة الخاصة، و انهزم الباطل بوقوع الحجة. هذا الاضطراب و القلق، لم يتنام و يكبر، إلا حول تجربة روحية قلقة، وإذا ما بحثنا عن المكان، الذي تأخذ فيه التجربة مكانها، فإن اصح مدلول لها في عالم الفكر، يجب أن نقول حسب اعتقادنا، أن المكان الذي لا يستهان به، و الذي تشغله هذه التجربة الروحية القلقة، هو القلب. فالقلب محكمة الإنسان العادلة، و علينا أن نقر بأهمية القلق في حياة المفكر، و الأديب، فهو عندما يعمل بجميع الوسائل، لطرد هذا القلق عن نفسه، و يرتاح، فإنه في الواقع يثري تجربتنا الحياتية، و يساعدنا على التقدم و تطوير أنفسنا، في الوصول إلى الحقيقة. إن هذه التجارب الخاصة، لا تتجلى عن طريق القمع، أو الاستبداد، و التصعيد، اللذين يألفهما الواقع الفكري، و الثقافي، والروحي أيضا، بل عن طريق تنامي هيمنة واعية، تبلغ الذروة بتبلور حقيقي. فلو كنا قد بلغنا رؤية الحقيقة ملياً، لما بقينا ننشدها، لكن طالما لم نزل في طور البحث، فإننا نواصل بحثنا ، و نعي عدم كمالنا، ولسوف تظهر في الأفق حقائق كثيرة، تجعلنا نأسف على ما فاتنا من شمولية الوعي. إننا لم نحقق الفكر في كماله، و طالما أن الفكر البشري، كما نتصوره هو غير كامل، فهو قابل أبدا للتطور و البحث، والتعليل،و إعادة النظر، للارتقاء نحو الحقيقة،وهذا ما لا يتحقق، إلا بوجود التجربة الخاصة، المبنية أساسا على القلق المصاحب لعملية التفكير، كما لاحظنا في تجربة أبي الأنبياء عليه السلام. إن جميع التصورات الذهنية، التي يتمثلها الناس هي غير كاملة، و تشكل تجليات للحقيقة في ثوب من القلق و التردد، لأنها جميعها قابلة للخطأ. إن الاحترام الذي نكنه لضروب أخرى من التفكير، لا يجوز أن تحجب عنا عيوبها، وعلينا أن نعي بشدة،عيوب تجاربنا الخاصة، و مع ذلك، لا يجوز أن نتخلى عن هذه التجارب، بل علينا التغلب على تلك العيوب. فالتجربة ليست خطأ، ولكن الخطأ هو التحيز إلى تجارب خاصة، مع علمنا بأنها غير كاملة. وإذا كنا لا نتردد في اقتباس التجارب الذاهبة في الاتجاه الصحيح، فالواجب علينا أن نحترم التجارب الأخرى، ونقدرها، حتى يثبت لنا صحتها، أو بطلانها, على طريقة: "و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين".