الواقع حولنا مادي جَنَحَتْ الكثير عن الطريق المستقيم وراحت تترقب طريقها إلى المادية المقيتة- فانتشر الظلم والعدوان وزاد الفسق والفجور في المجتمعات.
سؤال نهرب منه يمينا ويسارا ننشغل عنه ولكنه يظل يلح علينا – هل حياتنا في هذه الأيام سهلة ؟ أم هي صعوبات مُكدّرة؟
من اشد الصعوبات التعامل مع الناس والعيش في الزمن الصعب صعب- ما الذي صَعّبَ الحياة ؟ فالحياة في الأصل سهلة قال تعالى \" فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)\"سورة الليل
لقد صعّبوا الحياة حين لم يصدّقوا بالحسنى , والحسنى إتباع الأحسن مما نزّل الله العزيز – ولكن هناك البطالون الذين يبحثون عن البطالة والكسل وترك العمل- وهؤلاء صَعُبَتْ أخلاقهم وطباعهم وتفاعلاتهم- كونهم جعلوا لأنفسهم إلهاً خاصا بهم – فرؤية النفس وعبادة الذات والكِبْر والغرور والتعالي على الخلق واحتقار الآخرين صارت في الكثير أغنياءهم وفقراءهم- فالسر هو نَظَرْ وتَعَلّق وتقليد الناس للناس بدون التوجه للإصلاح أو التغيير –فأصبح في داخل كل منا كِبْر – كان عيسى عليه السلام يقول \" اللهم اجعلني في عين نفسي صغيرا\"
كيف تحول اليهود ومن ورائهم الصهيونية قتلة الرسل والأنبياء على مدار العصور إلى قوة عظمى تضرب بكل القوانين والمعاهدات الدولية عرض الحائط فما توافق معها أخذت به وما اختلف معها أنكرته- وللأسف أيضا نجد بلاد كثيرة مُتفرّغة للدفاع عنهم فهم بمنظورهم أصحاب حق – كيف تحوّل القتلة المتسلسلون إلى بطل يقف بجانبه الظالم والمحايد والمجني عليه؟ هل كما يقال أنهم يعبّرون عن أسوا ما في داخلنا ونحن نحب دومًا أن نرى شخصًا يقوم بما نخشى نحن القيام به- ألأنه سَيُنَفّذ لنا أسوأ كوابيسنا.
آخر الأحداث وليس آخرها بالتأكيد ما جرى لأسطول الحرية الذي بُنِيَ من دماء وجهود كثير من الإنسانية والذي يضم المسلم والغير مسلم العربي والعجمي من كل بقعة وبالرغم من هذا لم يتردد الكيان الصهيوني بالتهجم واستباحة الدماء , قوبلت بصرخات للاستهجان والإنكار والشجب ومواقف شجاعة من البعض وكلام تذروه الرياح من البعض الآخر- وفوق هذا صوت الظلم يعلوا مبرِّرا فوق منابر الطغيان ليُحَوِّل دفّة المركب ليكون الحق لها وغيرها الباطل – فهذا اللسان المتحدث الذي علا وما سواه صامتا صمت المقابر ترمي جُزافا تُهم تُلقى بها على المسلم والغير مسلم إذا كانت تمس اليهود والصهيونية سواء من قريب أو بعيد – وليس ما حدث للإعلامية الأميركية البارزة عضو هيئة صحافيي البيت الأبيض هيلين توماس أمرا مستهجنا بعد أن أعربت عن رأيها بان على اليهود الصهاينة مغادرة فلسطين والعودة إلى موطنهم في ألمانيا وبولندا-حيث قالت أن عليهم أن \"يذهبوا إلى موطنهم - إلى بولندا، ألمانيا والى أميركا أو أي مكان آخر\".لا بد \"لـ\"إسرائيل\" من الخروج من فلسطين\" مضيفة أن الأرض عربية فلسطينية \"وليست ألمانية ولا بولندية- فما كان منهم إلا أنهم اجبروها على تقديم الاستقالة وهي التي كانت لها باعا طويلا بأمور الإعلام الخاص بالبيت الأبيض فقد قامت بتغطية أخبار كل رئيس أمريكي منذ جون كنيدي.
روى الدكتور معروف الدواليبي يرحمه الله هذا اللقاء الهام بين الجنرال شارل ديجول والملك فيصل بن عبد العزيز يرحمه الله قبيل حرب حزيران. يقول الدكتور الدواليبي ( ص 201) من مذكراته: أنا لي تجربة مع الجنرال ديجول من يوم قضية استقلال سوريا فمع أنه كان محاطاً بعناصر يهودية ( صهيونية ) - فديجول عندما يعرف الحقيقة يغيــّر مواقفـه ولذلك كنت حريصاً على لقاء الملك فيصل بـه وألححت في ذلك وأصررت .
وكانت هناك رواسب قديمة لدى الملك فيصل وولي العهد الأمير خالد وموقف سلبي من ديجول منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ,وتابع الدكتور الدواليبي ، إصراره على اللقاء حتى كان الملك فيصل في زيارة لانجلترا ومنها إلى بروكسل, وكان ديجول يرى نتيجة لمساعي الدكتور الدواليبي ألا تكون دعوة رسمية لفيصل وإنما يخرج من بروكسل ، ويمر في طريقه بديجول فرفض الملك فيصل وأصر أن تكون دعوة رسمية لذلك تجاوز الملك فيصل باريس إلى جنيف ثم عاد منها إلى باريس وفي اليوم الأول أو الثاني من حزيران (1967) كان لقاؤه مع الجنرال ديجول ومعه الأمير سلطان والدكتور رشاد فرعون حيث جلسا مع رئيس وزرائه السيد جورج بومبيدو وبدأ الاجتماع بين الرجلين فيصل وديجول ومترجم: قال ديجول : يتحدث الناس أنكم يا جلالة الملك تريدون أن تقذفوا بإسرائيل إلى البحر وإسرائيل هذه أصبحت أمراً واقعاً ولا يقبل أحد في العالم رفع هذا الأمر الواقع ..
أجاب الملك فيصل : يا فخامة الرئيس أنا أستغرب كلامك هذا إن\"هتلر\"احتل باريس وأصبح احتلاله أمراً واقعاً وكل فرنسا استسلمت إلا ( أنت ) انسحبت مع الجيش الانجليزي وبقيت تعمل لمقاومة الأمر الواقع حتى تغلبت عليه فلا أنت رضخت للأمر الواقع ، ولا شعبك رضخ فأنا أستغرب منك الآن أن تطلب مني أن أرضى بالأمر الواقع والويل يا فخامة الرئيس للضعيف إذا احتله القوي وراح يطالب بالقاعدة الذهبية للجنرال ديجول أن الاحتلال إذا أصبح واقعاً فقد أصبح مشروعاً - دهـش ديجول من سرعة البديهة والخلاصة المركزة بهذا الشكل فغير لهجته وقال :يا جلالة الملك يقول اليهود إن فلسطين وطنهم الأصلي وجدّهم الأعلى إسرائيل ولد هناك
أجاب الملك فيصل : فخامة الرئيس أنا معجب بك لأنك متدين مؤمن بدينك وأنت بلا شك تقرأ الكتاب المقدس أما قرأت أن اليهود جاءوا من مصر!!؟ غـزاة فاتحيـن-حرقوا المدن وقتلوا الرجال والنساء والأطفال فكيف تقول أن فلسطين بلدهم ، وهي للكنعانيين العرب ، واليهود مستعمرون وأنت تريد أن تعيد الاستعمار الذي حققته إسرائيل منذ أربعة آلاف سنة فلماذا لا تعيد استعمار روما لفرنسا الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة فقط !!؟ أنُصْلِحُ خريطة العالم لمصلحة اليهود ، ولا نصلحها لمصلحة روما !!؟ ونحن العرب أمضينا مائتي سنة في جنوب فرنسا في حين لم يمكث اليهود في فلسطين سوى سبعين سنة- قال ديجول : ولكنهم يقولون أن أباهم ولد فيها !!! أجاب الفيصل: غريب !!! عندك الآن مئة وخمسون سفارة في باريس وأكثر السفراء يلد لهم أطفال في باريس فلو صار هؤلاء الأطفال رؤساء دول وجاءوا يطالبونك بحق الولادة في باريس !! فمسكينة باريس !! لا أدري لمن ســـتكون !؟ سكت ديجول ، وضرب الجرس مستدعياً ( بومبيدو )وكان جالساً مع الأمير سلطان ورشاد فرعون في الخارج وقال ديجول : الآن فهمت القضية الفلسطينية - أوقفوا السـلاح المصدّر لإسرائيل - وكانت إسرائيل يومها تحارب بأسلحة فرنسية وليست أمريكية-يقول الدواليبي :واستقبلنا الملك فيصل في الظهران عند رجوعه من هذه المقابلة ,وفي صباح اليوم التالي ونحن في الظهران استدعى الملك فيصل رئيس شركة التابلاين الأمريكية وكنت حاضراً ( الكلام للدواليبي ) وقال له : إن أي نقطة بترول تذهب إلى إسرائيل ستجعلني أقطع البترول عنكم ولما عَلِمَ بعد ذلك أن أمريكا أرسلت مساعدة لإسرائيل قطع عنها البترول, وقامت المظاهرات في أمريكا ووقف الناس مصطفين أمام محطات الوقود وهتف المتظاهرون : نريد البترول ولا نريد إسرائيل, وهكذا استطاع هذا الرجل ( الملك فيصل يرحمه الله ) بنتيجة حديثه مع ديجول وبموقفه البطولي في قطع النفط أن يقلب الموازين كلها -فأين نحن من هذه المعادلة أم غُلِّقَتْ القلوب والعقول وأصبحت لا تسير بهدي إلا هدي التبعية الاقتصادية و الثقافية و السياسية.
لو ظلت الأمة ألف سنة تصفق وتنشر الأعلام وتتباهى بالخطب والشعارات فلن تغير الواقع فنحن نعيش عالما لا يخدم إلا الأقوياء- لن يتغير الواقع بالصراخ فاليهود يضحكون بملء أفواههم – أين الشباب المبتكر؟ ليس الشباب الذي يحاكي أوروبا وأمريكا- فالأمة لا زالت تستورد سلاحها من عدوها- كيف ننتظر أن تكون كلمتنا واحدة مسدَّدة هادفة ؟قال الشيخ الشعراوي رحمه الله\" لن تكون كلمتنا من رأسنا إلا إذا كانت لقمتنا من فأسنا\"
لن يكون النصر إلا إذا تحوّل كلام العلماء إلى واقع في حياتنا- ولا يجوز أن ننحرف عن الإسلام وسيلة ونحن نتجه إلى الإسلام غاية- بمعنى أن الغاية لا تبرر الوسيلة- فالحياة لا تحدث لنا، بل تحدث منّا.
في قلوب الكثيرين يجتاح اليأس والقنوط كلما تعرضت الأمة لأي عارض- ولكن الأمل موجود بوعد الله بالنصر بشرط أن يدفعنا الأمل بالعمل وإتباع الحسنى– فنهاية الطريق لا بد أن يتألق الفجر الصادق- فأعتى الرياح لن تكسر عصيا قد اجتمعت.
ولتحقيق الآمال والنجاح نحن بحاجة إلى \" دعاة - تعليم – ومظلة للجميع \" الحكومة\", فسرّ التقدّم هو البدء. وسرّ البدء هو تكسير المهمات الكبيرة المعقّدة إلى مهام سهلة و صغيرة، ثم البدء في أول مهمة, وأول مهمة الإعلام وبكل أشكاله - يقول علماء الاجتماع: إن قوة الكلمات تفوق أي قوة توصل لها الإنسان كالطاقة النووية- لذلك كانت كلمات العلماء والأدباء والمشاهير والشعراء ورجال الأعمال والنقاد والمحللين أقوى من أي قوة أخرى- للكلمة قوة تزحزح الجبال من أماكنها وتغير المصائر وتعلّي الشؤون وترسم المصائر، فما بالها عندنا لا تساوي ثمن لترٍ من البنزين؟
كيف حوّلت كلمة \"اقرأ\" في القرآن الكريم العرب إلى أصحاب حضارة عريقة لا زالت تسير بذكرها الركبان.
روبسبيير وجان جاك روسو وغيرهم استطاعوا بكلمات نابعة من القلب، وموجهة للعقل أن يصنعوا الثورة الفرنسية-عندما أطلقها مارتن لوثر كنغ قائلا \"إن لديّ حلما...\"، استجابت لندائه الملايين، وانتفضت حركة الحقوق المدنية من سباتها لتغيّر القوانين، وتطبع حياة الملايين بالتحسين.
متى ستتحول الكلمة المكتوبة إلى حركة حية و المعنى المفهوم إلى واقع ملموس\" ؟ متى ستتحول الكلمة من ثغرة في جدار إلى باب ينفتح على مصراعيه؟متى ستتوحد وتتحوّل كلمتنا من (صمت المقابر إلى صوت المنابر).
Enass_natour@yahoo.com