تعرف النقود في علم الاقتصاد بأنها أي شيء يستخدم في عملية التبادل، والذي يقصد به القيام بالمعاملات والتبادلات التجارية أو شراء دين . عبر العصور القديمة عرف الإنسان أشكالاً متعددة للنقود كان في مقدمتها ما يعرف في الأدبيات الاقتصادية بالنقود السلعية ومنها السلع الثمينة كالذهب . استمر الذهب كأبرز السلع الثمينة ذا شأن خاص في حياة الإنسان إلى يومنا هذا بسبب عوامل اجتماعية واقتصادية . اقتصادياً، الذهب يحقق وظيفتين رئيستين من وظائف النقود الثلاث، وهما أولاً: وسيط للتبادل للقيام بالمعاملات وشراء الدين . فالكثير من الأفراد يقومون ببيع الذهب الذي يحتفظون به لإجراء التبادلات الاقتصادية . علاوة على ذلك، يستخدم الذهب كغطاء للعملة الوطنية في معظم دول العالم من خلال الاحتفاظ بالذهب كاحتياطيات دولية . ثانياً، مخزن للقيمة ويقصد بهذا قدرته على نقل والمحافظة على قوته الشرائية عبر الزمن بسبب منزلته الاجتماعية الرفيعة في مختلف المجتمعات الإنسانية، وكذلك بسبب احتفاظ البنوك المركزية به كعملة احتياطيات دولية . وعلى النقيض من ذلك، لم يستطع الذهب المحافظة على الوظيفة الثالثة وهو أن يكون وحدة حساب وهو استخدامه في تسعير السلع والخدمات في التداولات اليومية، والسبب هو أن المتوفر من الذهب محدود على مستوى العالم ومتوفر في دول معينة مقارنة مع توسع وكبر عمليات التبادل التجاري بين الدول وداخل الدولة الواحدة . لذلك، لجأ الإنسان إلى سك النقود المعدنية وطباعة النقود الورقية لتسهيل وتسريع عملية التبادل الاقتصادي . وعلى الرغم من ذلك، بقي الذهب السلعة أو العملة الأكثر أمناً وملاذاً في العالم، وخاصة في حالات التضخم المرتفع . حيث يلجأ الأفراد عادة في حالات التضخم المرتفع إلى تحويل أصولهم النقدية إلى أصول ثابتة على شكل عقارات وأراضٍ وذهب . فالنقود السائلة تحصل على عائد هو سعر الفائدة الحقيقي ويعرف في الأدبيات الاقتصادية بحاصل طرح معدل التضخم من سعر الفائدة المقدم من البنوك على الودائع الآجلة . ففي حالات التضخم المرتفع يصبح معدل التضخم مرتفعاً ويفوق سعر الفائدة المقدم من البنوك، وهذا يعني أن النقود السائلة تخسر جزءاً من قيمتها . وعلى النقيض من ذلك، فان الذهب لا يحصل على سعر فائدة! بل على العكس تماماً، فإن الاحتفاظ بالذهب كسلعة أو عملة يتطلب دفع كلفة للتخزين والتأمين . من هنا يمكن القول بأن الاحتفاظ بالذهب يعتمد بالدرجة الأولى، خاصة في هذه المرحلة، على العائد المتوقع على الأصول الأخرى ألا وهو سعر الفائدة الحقيقي .
بيانات أداء الاقتصاد الأمريكي والمنشورة على الموقع الإلكتروني للبنك الاحتياطي الفيدرالي في مدينة سانت لويس تؤكد بأن أسعار الفائدة الأمريكية وحتى منتصف شهر أكتوبر/ تشرين أول من هذا العام وعلى مختلف الأصول المالية في انخفاض مستمر، حتى أنها تلامس الصفر المئوي على بعض الأصول أحياناً وخاصة قصيرة المدى . أما بيانات أداء البنك المركزي الأوروبي لمنطقة اليورو فتؤكد حقيقة الانخفاض الواضح في مستوى أسعار الفائدة ألا أنها تبقى عند مستوى أعلى من مستوى سعر الفائدة الأمريكية وبهامش قد يصل في المتوسط إلى 1-2% باعتقادي أن هذه الحقائق تؤكد بأن ارتفاع أسعار الذهب مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسات النقدية التوسعية في كل من الولايات المتحدة ومنطقة اليورو . فهذه السياسات تعمل على تقليل العائد على الأصول البديلة، وبذلك يصبح الذهب أفضل سلعة أو عملة يمكن حيازتها من قبل المستثمرين لتقليل المخاطر، خاصة في بيئة تشهد افلاساً وانهياراً مستمرين في قطاع البنوك . وتجدر الإشارة وفق العديد من وكالات الانباء الى أن عدد البنوك التي انهارت في الولايات المتحدة الامريكية بلغ حولي 99 بنكاً حتى منتصف شهر أكتوبر/تشرين أول من هذا العام!
قد يكون الارتفاع في أسعار الذهب مؤشراً من المستثمرين للبنوك المركزية والسياسات الحكومية على عدم اقتناعهم بأداء هذه السياسات للخروج بالاقتصاد العالمي من الأزمة . لذلك أصبح الذهب العملة التي تمثل قناة للهروب من الاستثمار ولضمان ثروات المستثمرين مع ارتفاع حالة عدم التأكد . إذن يمكن القول بأن ارتفاع أسعار الذهب جاء كردة فعل من المستثمرين ترفض فكرة الاستثمارفي الوقت الراهن وفضلت البقاء في مأمن الى حين وضوح الرؤية، هذا السلوك الجديد يضيف قيمة معرفية وهي أن المستثمرين لا يلجأون لشراء الذهب في حالات التضخم المرتفع فقط كما ذكر سابقاً، بل يلجأون لشراء الذهب في حالات انخفاض مستوى اسعار الفائدة الحقيقية بسبب السياسة النقدية التوسعية متزامنة مع وجود حالة من عدم الثقة بأداء الاقتصاد الكلي العالمي .
يبقى الرهان لواضعي السياسات النقدية التوسعية الهادفة الى إنعاش الاقتصاد العالمي هو الرهان على الانخفاض في مستويات أسعار الصرف، خاصة الدولار، لتعزيز الصادرات وتقليل العجز في الموازين التجارية لدفع الطلب الكلي من جديد لضمان تحليق الاقتصاد والابتعاد عن الكساد . وفي هذا الصدد يبرز سؤالان مهمان ومترابطان . الأول: هل مستويات الدخول في الدول المستوردة قادرة على تحقيق هذا الهدف في ضوء الخسائر الكبيرة في الثروات ومستويات الدخول؟ وبمعنى آخر هل الانخفاض في أسعار الصرف للدول المتقدمة قادر على تعويض الخسارة في مستويات الدخول في الدول النامية؟ لا اعتقد ذلك! ثانياً: ما هو معدل التضخم المتوقع في الفترة القادمة؟ باعتقادي أن الأثر الأسرع لانخفاض أسعار الصرف، خاصة الدولار، هو الارتفاع السريع في أسعار النفط كون النفط مقيماً بالدولار في الأسواق العالمية .
علاوة على أن النفط هو عصب الحياة الاقتصادية ومدخل أساسي في عملية الإنتاج، ناهيك على أن فصل الشتاء يسود الآن في نصف الكرة الشمالي .
ويجب أن نتذكر بأن المستثمرين يهربون من فكرة الاستثمار الى شراء الذهب . وبذلك، فإذا ما استمر الوضع الراهن على ما هو علية فإنه يتوقع أن يشهد العالم موجة من التضخم ناجمة عن التراجع في العرض الكلي قادرة على الغاء الاثر الايجابي لانخفاض أسعار الصرف .
خلاصة القول إن السياسات النقدية التوسعية قللت مستوى أسعار الفائدة وأسعار الصرف، خاصة الدولار . وبنفس الوقت يشعر المستثمرون بأن هذا الوقت غير ملائم للاستثمار الحقيقي بسبب عدم وضوح الرؤية وعدم التأكد . لذلك، يلجأ المستثمرون الى شراء الذهب كعملة بديلة أكثر أماناً . هذا التحول سيسبب عدم زيادة (أو نقصان) في مستوى العرض الكلي . ناهيك عن الارتفاع في اسعار النفط بسبب انخفاض سعر صرف الدولار الامريكي، والذي سيؤدي الى ارتفاع التكلفة على المنتجين وانخفاض العرض الكلي . هذا التحليل يتوقع ارتفاع الاسعار وانخفاض الإنتاج في المرحلة القادمة . . . وآمل ألا يحدث هذا .