لأسباب إعلامية بحتة روجت لها الدعاية الصهيونية ارتبطت كلمة \"المحرقة\" أو \"الهولوكوست\" بالنازية والسجون الجماعية واليهود إبان الحرب العالمية الثانية، وبالرغم من يقيني أنا والكثيرين غيري بخرافية المحرقة المزعومة وأساطيرها المختلقة، والتي استخدمت فيها البروباجندا الصهيونية صورا لضحايا وباء التيفوئيد الذي انتشر في وقت ما سابق في أوروبا كأدلة دامغة على حدوث المحرقة، إلا أن إسرائيل ما فتئت تروّج لأسطورتها الخرافية مع المحرقة النازية وتتصدى بالقانون لأولئك المشككين بها والمكذبين لها أمثال المحامي الأمريكي فرانسيز باركر يوكي، والمؤرخ الأمريكي هاري أبلمر بارنيس والمؤرخين جيمس مارتن وويليس كارتو، والمؤرخ الفرنسي بول راسينير وكذلك آرثر بوتز الأمريكي والذي نشر كتابا بعنوان \"أكذوبة القرن العشرين\"، والمؤرخ البريطاني دايفيد أيرفنك والصحفي الكندي ريتشارد فيرال.
بل استطاع اليهود العام المنصرم ومن خلال فرنسا ساركوزي وبالاشتراك مع منظمة اليونسكو تنظيم مشروع \"علاء الدين\" لتنظيم سلسلة من الندوات لمحاربة الأفكار التي تنكر حدوث المحرقة في العالمين العربي والإسلامي.
من المفارقات المثيرة للسخرية والاشمئزاز في آن واحد أن اليهود الذين طالما ناحوا وولولوا على أطلال المحرقة مستغلين السجون الجماعية التي وضعهم هتلر فيها، لإرغامهم على البقاء في ألمانيا نظرا لحاجة البلاد إلى الأيدي العاملة في ظروف الحرب الصعبة تلك في الوقت الذي كان يأمل فيه اليهود بترحيلهم إلى وطنهم الجديد \"أوغندا\"، مما دفعهم إلى اختلاق أكاذيب المحرقة والاضطهاد العنصري الذي مارسه الشعب الآري والتعصب النازي ضدهم، في الوقت ذاته مارست وتمارس دولة إسرائيل أبشع وأقبح المجازر ضد جميع شعوب العالم باستثناء الشعب اليهودي السامي، فبعد أن كانت تبرر مذابحها ضد أبناء الشعب الفلسطيني بحقها في الدفاع عن نفسها، لم تعد القصص الملفقة التي تخترعها من نسج خيالها المريض حتى النخاع بالعنصرية والتعصب لأبناء سام تنطلي على العالم، خاصة بعد بطشها بكل من حاول ويحاول كشف النقاب عن حقيقتها الكارثية الكاوية وجوهر كيانها القائم على إحراق كل من يعترض سبيل مشروعها الدموي أمثال الأمريكية \"رايتشل كوري\" والصحافيين الأجانب وحتى العناصر العاملة في المنظمات الإنسانية المختلفة وأخيرا الأتراك والأيرلنديين وغيرهم من نشطاء السلام والمتضامنين الدوليين.
بعد هذه المقدمة الطويلة يمكنني الآن أن أتحدث في صلب المحرقة الحقيقية التي يعيشها الشعب العربي منذ سنوات، المحرقة المتأججة بالرغم من كل حركات الإصلاح الواهية ومظاهر التقدم والتطور المعاصرة ومحاولات التحديث الصورية، والتي نزداد بها ومعها كل يوم قناعة وإيمانا بأن نيران المحرقة الملتهبة لا يمكن لها أن تنطفئ بسهولة ويسر بل إن أوارها تستعر كل يوم وهي تأكل في طريقها الأخضر واليابس.
منذ سنوات لم يمر على المواطن العربي يوم أفضل من سابقه ولم يشعر بأن الغد سيكون أفضل من الأمس، بل على العكس من ذلك تماما فأنت تصحو كل صباح ليفزعك نعيق بوم الشؤم من الأخبار المأساوية التي تسد شهيتك عن الإفطار وحتى عن قهوة الصباح السادة وأنت تتنهد على مرارة أيامك التي تزيدها القهوة مرارا وسوادا.
تطالعك الأخبار السياسية على آخر صيحات الموضة في الإجحاف العالمي بحق العرب وحق المسلمين أينما كانوا في العالم، فتمتعض من ميزان دولي يشدد عقوباته على إيران ويخجل من تجريم إسرائيل ويتعاطف مع مجازر إسرائيل باعتبارها حالة خاصة ويعد في الوقت ذاته الحجاب والنقاب من مظاهر التطرف الديني، ويضيّق الخناق على عناصر المقاومة بأشكالها المختلفة على اعتبار أنها عناصر إرهابية ويبيح اختراق بعض الدول سياسيا وحتى عسكريا ببساطة قضم تفاحة، ثم تحاول أن تفهم لماذا تزداد الموازنة السنوية عجزا بالرغم من أن أسعار كل شيء حولك يزداد ارتفاعا وبالرغم من المحاولات اللاهثة لزيادة موارد الدخل إلا أن الديون ما زالت تتراكم وترتفع، والفقراء يزدادون فقرا وشقاء والأغنياء يزدادون غنى وثراء فتنغمس الفئة الأولى في الانحراف والجريمة وتمعن الفئة الثانية في الفساد والغي، فتتسع الهوة الثقافية والفكرية في النسيج المجتمعي بين طبقتين اقتصاديتين لا يمكن التجسير بينهما بعد سقوط الطبقة الوسطى التي تحافظ على سلامة التكوين المجتمعي في كل المجتمعات.
نلوذ بربيع المستقبل لنمتص رحيق الأمل منه ونحن نستنشق شذى الجيل الصاعد فنغتم لما آل إليه حال شباب اليوم الذي حبسناه في قمقم الأمية المقنعة والتعصب القبلي والعنف الاجتماعي بعدما عمدنا إلى تسطيحه فكريا وثقافيا وتفريغه من همومه الوطنية وقضاياه المصيرية، وعلّبناه في قوالب أخلاقية وثقافية ومعرفية هشة وموبوءة وبعيدة كل البعد عن المصلحة الوطنية العليا.
لم نعد ننظر خبرا سارا يفرج الكرب أو خطوة عبقرية تحسن الوضع فمنظومة القيم والأخلاق بعدما انهارت أخذت تتآكل، وغابت لغة الحوار والتواصل بين الأفراد حتى المتعلمين والمثقفين منهم لتحل محلها لغة السكاكين والأسلحة النارية والشجارات والعنف، والبنت تخاف على نفسها وعرضها ومستقبلها من ذويها ومحارمها، والمقهور لا ناصر له والمظلوم لا منصف له، وكل القوانين والتشريعات القضائية والتعليمية والانتخابية يتم تعديلها للأسوأ ليزداد المجتمع تفسخا وضياعا وتخبطا في غياب سلطة الثالوث الحيوي (الأسرة والتربية والتعليم والإعلام) في ضبط المجتمع وأفراده.
لابد للمحرقة العربية من الانضمام إلى أختيها النازية والسامية لأنها لا تقل عنهما شدة وضراوة وشراسة!