د.بسام البطوش
اقترن العرب والترك منذ نحو ثلاثة عشر قرنا بعلاقة وثيقة اسهم خلالها الطرفان في إشادة البناء الحضاري الإسلامي ،ووتولى الترك قيادة دول عظيمة حملت على عاتقها مهام الدفاع عن الاسلام ونشره . وكانت العلاقات العربية -التركية قد تعززت منذ مطلع القرن السادس عشر عندما بسطت الدولة العثمانية سيطرتها على أجزاء واسعة من البلاد العربية باستثناء مراكش والقرن الأفريقي ،ومرت العلاقات العربية- التركية بمحطات ايجابية واخرى سلبية ،وانتهت نهاية مؤلمة عندما اضطر العرب للثورة على الدولة العثمانية بقيادة الشريف الحسين بن علي ،بغية تحقيق امانيهم في الحرية والاستقلال والوحدة ،وبهدف التخلص من سياسات التتريك والتطرف القومي الطوراني ضد العرب ، التي مارسها غلاة تركيا الفتاة وحزب الاتحاد والترقي باسناد من القوى العلمانية التغريبية والماسونية ويهود الدونمة.
لكن المحطات المؤلمة في العلاقات العربية- التركية عبر نحو قرن من الفصل- واكثرها إيلاما كانت الانحياز التركي الرسمي لجانب اسرئيل والاعتراف المبكر بها 1949- لم تكن قادرة على هدم جسور الوصل والتلاقي والتعاون بين الأمتين المسلمتين الجارتين، وبقيت مشاعر الأخوة والتطلع للتقارب مشتعلة تحت رماد السياسات الرسمية المتباعدة على الجانبين ،وظل الأمل قائما بإعادة الوصل،وإصلاح ما أفسدته العلمانية المتطرفة. وظل العرب ينظرون لتركيا بوصفها دولة إقليمية مجاورة ، تتمتع بموقع جغرافي إستراتيجي في السياسة الدولية ، وتتمتع بقوة عسكرية ضخمة، وعضوية الحلف الأطلسي، واقتصاد قوي، واستقرار سياسي،وتجربة ديمقراطية آخذة في التجذر،ولديها القدرة على تحقيق التوازن في مواجهة الاسلام الشيعي الذي تقوده ايران، والقدرة على لجم التمادي الاسرائيلي في التنكر لحقوق الفلسطينين والعرب.
وشهدت السنوات القليلة الماضية محاولات جادة قادها التيار الاسلامي في تركيا بقيادة البروفسور نجم الدين أربكان ثم تلميذه طيب رجب أردوغان للتقارب مع العالم العربي ، وإقامة علاقة متوازنة بين العرب واسرائيل لخدمة المصالح التركية ،واستعادة الدور التركي في بناء سياسات المنطقة ، وهكذا جاءت التوترات في العلاقة التركية مع اسرائيل في سياق شعور تركي متزايد بصعوبة الولوج إلى جنة الاتحاد الأوروبي ،وراحت تركيا تشعر أن اسلامها يحول بينها وبين أوروبا ،كما أن علمانيتها تحول بينها وبين العالم الاسلامي، وهنا وفي ظل أزمة الهوية هذه راحت تتعزز التوجهات العربية والاسلامية في المشهد التركي.وثبت أن جميع السياسات الاتاتوركية لم تنجح في فصل تركيا عن الاسلام والثقافة التركية التقليدية المستمدة منه، واقتنع الاتراك أنه لم يعد بوسعهم الاختيار الجازم بين الشرق والغرب،أو بين الدين والعلمانية ،أو بين الماضي والحاضر والمستقبل ،وأن الأسلم لتركيا أن تتطلع لتمثيل النموذج الغربي لدى المسلمين ،و لتمثيل العالم الاسلامي لدى الغرب، الخلاصة أن تركيا باتت تبحث عن دور جديد هو دور الوسيط في الثقافة كما في الاقتصاد كما في السياسة والدبلوماسية،لكن بعض العرب يقرأون الدور التركي قراءة رغائبية مختلفة !!
وجاءت المواقف التركية الرافضة للاحتلال الأمريكي الأطلسي للعراق،ورفض تركيا الحازم لسياسات تقسيم العراق انطلاقاً من المصالح الاستراتيجية لحماية الأمن القومي التركي،علماً بأن تقسيم العراق يحظى بدعم إسرائيلي،وهذا زاد في التباعد التركي الاسرائيلي؛فتركيا تتوجس خيفة من العلاقات الحميمة التي تربط اسرائيل بأكراد العراق وحزب العمال الكردستاني، ولطالما تعدت مؤشرات ضلوع خبراء أمنيين إسرائيليين في مساندة أكراد العراق عند الحدود العراقية التركية، ولم تكن الأصابع الصهيونية بعيدة عن كثير من الأزمات التي تواجه حكم حزب العدالة والتنمية. ومثلت المواقف التركية القوية من العدوان الاسرائيلي على غزة مطلع العام 2009،والعدوان الاسرائيلي على السفن التركية المشاركة في اسطول الحرية في أيار 2010 مناسبة لإحياء الأمل العربي باستعادة تركيا أو العودة اليها!
وما ينبغي على العرب عدم تجاهله أن كل هذا التوتر لاينفي الحرص التركي على التقيد بمقتضيات العضوية الأطلسية ومتطلبات التحالف التركي- الاسرائيلي،وهذا يتبدى في العلاقات العسكرية والتدريبات المشتركة وصفقات التسلح،والعلاقات الاقتصادية الوثيقة.
رهانات العرب على الدور التركي لحمايتهم واسنادهم ،تثير التساؤلات حول نظرتهم لطبيعة الدور التركي المنشود عربيا ،فهل يريد العرب استعادة تركيا من اسرائيل ومن الغرب، وإعادة توطينها في محيطها الحيوي ،ومنحها العضوية الفاعلة في هذا المجال الحيوي المتنازع عليه؟ أم يريد العرب منحها الصفة التفضيلية في مجال جيواستراتيجي عربي يعاني من الفراغ الحقيقي ،والصراع للسيطرة علية يجري بين قوى أقليمية ثلاث هي ايران وتركيا واسرائيل،إضافة إلى القوى الغربية، وفي المقدمة منها القوة الأمريكية، هذا بطبيعة الحال في ظل غياب مفجع للدور العربي .
في الحقيقة إن الطموح العربي لبناء علاقات قوية مع تركيا تكتنفه معضلات كثيرة تتعلق باستقلالية القرار العربي ووحدته وجديته ومصداقيته ،وتتصل بوعي العرب على مكانتهم ودورهم وقدرتهم على تمثل تلك المكانة وهذا الدور.ومدى إخلاصهم لأصدقاءهم، والتساؤل الكبير يدور حول ماذا يريد العرب ؟هل يريدون استعادة تركيا وكسبها صديقا وشريكا وحليفا ؟أم يريدون العودة إلى تركيا بوصفها مرشدا وناصرا بل وقائدا؟ من الطبيعي التساؤل هل استبد الحنين بالعرب لأمجاد دولة بني عثمان؟وكيف ينظر العرب لأردوغان هل بوصفه زعيما تركيا ذكيا يرعى مصالح بلاده وأمته ويتقن صياغة الدور الاسترتيجي الحيوي التركي في هذ المنطقة من العالم ،ويبدي عطفا على العرب الحيارى ،أم ينظرون اليه بوصفه فاتحا جديدا يحميهم من أنفسهم ومن العدوان الأجنبي؟ أم يريدونه (سليما ) جديدا يتحول عن الغرب نحو الشرق فاتحا بلاد العرب لمواجهة صعود الاسلام الصفوي الايراني الجديد؟ ولمواجهة القوى الغربية الطامعة ؟ أم انهم يريدونه محييا للرابطة العثمانية ؟ أم أنهم أي العرب يتوقون –كالعادة- لسيطرة الغالب ولتقليد القوي والانبهار به ؟أم أنهم يحنّون لأيام الباب العالي ويتطلعون للاستغاثة به عسى أن يتصدي للأخطار المحدقة بهم، في حين يكتفون هم بالانخراط في الطرق الصوفية الجديدة؟ رحم الله المفكر الجزائري مالك بن نبي عندما تحدث عن القابلية للتبعية حتى لا أقول للاستعمار! اليوم العرب في حالة من انعدام الوزن والشعور بالصدمة وهم يعيدون اكتشاف تركيا بعد أربعة وتسعين عاما من ثورتهم عليها ! العرب مندهشون من الديمقراطية التركية ومن الثقافة التركية ومن القوة التركية ومن الإسلام التركي ومن السياحة التركية ومن الدراما التركية ومن المظهر (اللوك) التركي ، وهم في حالة غريبة من العيش في الاحلام ؛احلام لاتنتهي بقدوم الفارس التركي على ظهر جواده الأبيض ! يعيشون في حلم أن ياتي (الغازي) أردوغان ليمسح بسيفه السحري اسرائيل من الوجود ليتسنى للعرب اللهو البريء على شواطىء حيفا ويافا وعكا وغزة المحررة؟! ولا بأس لو أكمل (الغازي) معروفه وحرّر العراق من الأمريكان ليتمكن أهله من استكمال المحاصصة بهدوء ! و لماذا لا يعيد الطيب أردوغان للعرب لواء الأسكندرونه فقد استبد بهم الشوق لانطاكيا!والترك لا يقلون كرما عن العرب! وما الذي يمنعه من تصحيح أخطاء التاريخ ومظالمه بتحرير أندلس العرب المفقود، فقد طالت غيبة بني يعرب عن طليطلة وغرناطة وليالي الأنس وقصر الحمراء! بصراحة هل استبد بالعرب الشوق لسياسات التتريك،هروبا من سياسات التغريب والأمركة والصهينة والتشرذم؟!وهل يطيب للعرب أن يرددوا مع أمير الشعراء (ياخالد الترك جدد خالد العرب)ولكن هذه المرة المجدد هو (الغازي )أردوغان لا (الغازي )أتاتورك!!
Bassam_btoush@yahoo.com