أتمنى أن يستطيع أحد أن يقنعنا بأن قرار الحكومة الأخير بفرض ضرائب على بعض المواد، وإلغاء الدعم عن أخرى هو الخيار الوحيد المتاح أمامهم والحل الأكيد للأزمة، وهل تستطيع الحكومة أن تقنعنا بأن هذا الرفع لن يتبعه رفوعات؛ أي أنه ليس حزمة من الإجراءات التي تتم بالتقسيط لمقتضيات التسليك الإعلامي وامتصاص غصة الجماهير (على اعتبار أن الجماهير أصبحت متخصصة بالغصة لا بالغضبة).
ترددت كثيرًا عند الكتابة والتعليق؛ لأنني خشيت أن أكون ضلعًا في فترة التنفيس التي تتلو " القرارات الهامة" بعد أن وقع الفأس بالرأس، وأصبحت المصيبة تحصيلاً حاصلاً. ولكنني حزمت الأمر حتى لا نفقد هذه البقية الباقية من نفسية الاعتراض والتعبير عن السخط وعدم الاقتناع وعدم التصديق وعدم الإقرار بهذا القرار.
صناعة القرار من العلوم الإدارية العريقة, وتمر من خلال عملية متسلسلة تزداد دقتها وحساسيتها كلما كان القرار مصيريًا أو تتطلبه مشكلة كبرى. وكان لي فرصة أن أقابل مدير التطوير في شركة تيوتا اليابانية الذي كان يفاخر ويقول: أي شركة ستحتاج عشرة أعوام حتى تصل إلى ما وصلت إليه تويوتا, وفي ذلك الحين ستكتشف تلك الشركة أننا نسبقها بعشر سنوات! منتهى الثقة بصناعة القرار لديهم. وقال ممّا قال: إنّ أحد أسرار صناعة القرار وحل المشكلات لديهم هو أن ينزل المسؤول ( صانع القرار ) إلى موقع المشكلة أو يذهب هناك بشحمه ولحمه ويتقصى - كما يتقصى المحقق - كل ما يفيده لصناعة قراره من ذلك المكان, لا أن يكتفي باستلام التقارير وقراءتها " عن بعد ".
كل الأردنيين يشهدون أنهم لم " يتشرفوا" برؤية معظم أصحاب المعالي ( صناع القرار ) على الإطلاق, بل لم يسمعوا بأسماء بعضهم، ولم يعيشوا ويتنعموا ويتأملوا بحسن صنيعهم وعظيم إنجازاتهم قبل أن يدخلوا الوزارة أو أثناء وجودهم فيها (أو ربما عندما يخرجوا منها), وفي المقابل أزعم – وأضم رأيي لرأي دولة عبد الرؤوف الروابدة – أن بعض الوزراء لا يعرف الشعب الأردني، وإن تركته في بعض مناطق عمان لضاع فيها، ولما تمكن من العودة إلى مكتبه!
عندما ينظر أحدنا بتنعم في بعض القرارات يخيل له أن من صنعها أو أصدرها كان كمن يسلق بيضة أو يصنع فنجان قهوة, ثم لا نلبث قليلاً حتى يتم لحس هذا القرار الذي لم يستطع الصمود أمام الانتقادات والشكاوي. في المقابل إن ما نفهمه أنه كلما كان القرار مصيريًا أو يمس الأمن والأمان وكرامة الإنسان فإنه يحتاج المزيد المزيد من التدقيق والنزول عن الأبراج العاجية والتقارير الموجهة عن بعد, بل النزول إلى مناطق التطبيق, وكذالك الاستعانة بأهل الرأي أينما كانوا وعلى أي اتجاه يحسبوا.
وإن أكثر شيء يقتل ويدمر الاستقرار هو الاستفراد والاستئثار بصناعة القرار فلا يرغب في أن يشاركه أحد. وهذا يحتمل سببين: إما أنه يصنع قراره بذكاء فائق فيخاف من أن يتعلم سره أحد, وإما أنه يصنع قراره بضحالة وتسرع فيخشى أن يفضحه أحد!
إن الإكثار من المبالغة في إصدار القوانين المؤقتة في غياب مجلس النواب هو استئثار واستفراد بالقرار، وإن استثناء أهل الخبرة والباع من خارج الإطار الحكومي هو استئثار واستفراد، وإن الانحياز لوجهات النظر والمصالح والمكتسبات المفيدة لصالون سياسي معين يعتبر استفرادًا واستئثارًا.
وأخيرًا، إن القرار الأخير والمتعلق برفع الأسعار وسلخ الدعم هو قرار انفرادي استئثاري سيضاف إلى العشرات من القرارات والقوانين التي تعَدُّ - بكل امتياز - موانع للاستقرار وملاحقة كلّ أمل بالازدهار, وللشعب الأردني أحلى سلام.
م. جمال أحمد راتب