قالوا لي:
حدثينا عن نفسك قليلاً...
قلت: حسناً، لكن سأبدأ حكايتي بكان ياما كان، فهي قصة من روايات الزمان..
كنت صغيرة والعمر يمضي بأمان، ألهو ألعب ، أمرح في أي مكان، أنسج من بحيرات جنياتي الأحلام، وأرسم وجوهاً باسمة على الحيطان، فتضربني أمي وتحرمني من الألوان، فآخذهم خفية وأختبيء عند الجيران.
كانت لديهم ابنه اسمها بيسان، نلعب سوياُ في بيارات الرمان، كانت الشمس، الكواكب، البحار، الأسماك أصدقائنا وحتى المرجان، نمضي اليوم في لهو ٍ، وعند وقت الظهيرة نذهب لبيت صديقنا عسقلان، نجلس في ساحة بيته تحت الياسمينه ننتظر الآذان، نصلي وبعدها يأتي جده ليخبرنا قصص من ذكريات المكان، يخيفنا أحياناً بقصص عن ذئاب أكلت الجديان، نرتعب قليلاً وتمضي الحكاية بأمان.
وعندما يحل المغيب يجتمع الأهل ، الأحباب ، والخلان، في بيارة أبي يتحدثون، يضحكون، ينشدون أناشيد الأوطان، وأنام في حضن جدتي وهي تقص لي حكاية عن أمير الفرسان.
يأتي الصباح، أنهض مسرعة فاليوم سنقطف الزيتون، نحصد القمح، ونجمع الرمان، فتلقاني صديقتي يافا نتسابق الى البحيرة فهناك تنتظرنا صديقتي بيسان، وابن عمي طبريا، وصديقنا عسقلان.
وهكذا تمضي بنا الأيام ونحن نصحوا، نلعب، نمرح، نأكل، وننام ومرت بنا السنين ونحن على هذا الحال.
واستيقظت ذات يوم ، ولم أجد شمس قريتنا تنتظرني كعادتها في وئام، فأشعتها باردة مع أنها ظاهرة للعيان، ذهبت لأسأل أمي عن معطفي فالجو يكاد يعصف بالبرودة، فلم أجدها ظننتها عند الجيران، خرجت أنادي أبي فهو يعمل في البيارة منذ الصباح، ولكني لم أراه.
بحثت مطولاً عن جدي وجدتي، صديقاتي، لم أجد أحد، ذهبت وانا أرتجف خوفاً الى بيت عسقلان فهو خلف منزلنا، كان الباب مفتوحاً وشجرت الياسمين تحت الحطام، والبيت فارغ الا من الدخان، شوارع البلدة تخلوا من المارة ...
وفجأة سمعت صوت أنين خافت عند بيت عمي ، ركضت الى هناك فوجدت جارنا نابلس كله جراح ، سألته في هلع "" ألم ترى أهلي يا عمي ؟؟""
فقال لي: يا صغيرتي الكل هجر الديار ، لقد انتشرت ليلاً في أرضنا الكثير من القطعان، فعاثوا في البلد طغيان، وأوكلوا للذئابة مطاردة الغزلان، أهربي بعيداً قبل أن يسرقوا من زرقة عينيكِ ملامح الجنان..
هلعت الى بيتي أخذت حقيبة أمي، كتاب أبي، مسبحة جدي، ونظارة جدتي، أنتقيت بعض ألعابي الصغيرة،صور أصدقائي، ومفتاح بيتي،وحصالتي الصغيرة، وذهبت لمحطة السيارات ركبت أحداها وارتحلت من اللد الى عمان.
استقبلني أهلها بالود والحنان ، سكنتها حتى كبرت وتخرجت من الجامعة بعد دراستي لتاريخ الأوطان، ووجدت فيها ما تناساه الوطن من حقنا في رجوع كرامتنا، وجودنا، عروبتنا، القدس ، وحتى الجولان.
ورأيت أستعمارهم لنا ليس بالحدود ولكن بالأفكار ، والقيود، وعقول الطغيان، أنسونا مبادئ ديننا ، أساسيات حياتنا، ابداعاتنا، حتى أصبحنا في مزبلة الأزمان..
ورأيت أن أكتب لكم قصتي لعلنا يا شباب الحاضر نصحوا من غفلتنا ونتدارك مفاتيح أوطاننا ، وننتشل بقايا حطامنا ، نجتمع سوياً، ونقهر آلة العصيان.
لعل يوماً سيأتي نربي فيه أجيالاً نزرع فيهم ديننا ومبادئنا ويقبلوا على العالم بعقل واع ٍ لا اتباع للقطعان، ويحرروا أنفسهم من مكائد النسيان.
أسماء العسود