زاد الاردن الاخباري -
لم يكن محمد ملحس يتمنى هذه النهاية لقصة والده الطبيب المثابر, ولولا ان الامر لا يعود لسلوك ورثة د. قاسم ملحس مؤسس اول مستشفى وطني في الاردن, لجهة ان د. ملحس وابناءه - ذكورا واناثا - لم يكونوا قط من اصحاب الثروات, ولم يشكل المال لهم يوما هاجسا يقلقهم, لفتح محمد ملحس قريحته وتركها على سجيتها تتحدث, تنبئ الناس عن الآلام التي خلفتها حكاية المستشفى عليه وعلى اشقائه وشقيقاته, وعلى كل من له صلة ما بمستشفى ملحس, وهم كثر, بعدما امست المستشفى وذاكرتها الحية اطلالا يملأ التراب باحاتها, رغم ان المبنى لا زال قائما كما هو, لكن مَنّ قال ان الدار الفارغة الا من الذاكرة بامكانها حماية ذاتها, قبل حماية تاريخها?
ما اثار موضوع مستشفى ملحس, واعاده الى الواجهة ان نقابة المحامين التي تملك 90% من مبنى المستشفى بصدد اتخاذ قرار بتحويله الى فندق او الى مول وفقا لما صرح به عضو مجلس النقابة المحامي فتحي الدرادكة, بعدما فشلت النقابة في اعادة المستشفى الى الحياة, لاسباب كثيرة, لعل من ابرزها وفقا لنقابي مطل على ادق التفاصيل فضل عدم الكشف عن اسمه, التجاذبات والتناقضات داخل مجلس النقابة تجاه موضوع المستشفى, خاصة ان المبنى والارض حسب نفس النقابي باتت ذات قيمة مرتفعة, اثر الفورة العقارية الاخيرة.
مستشفى ملحس جزء مهم من تاريخ الاردن, ولمعظم الاردنيين الاحياء منهم والاموات علاقات خاصة مع هذا الصرح الطبي, ومن شأن تغيير صفة استخدام المبنى, حتى لو حافظ المبنى على هيئته الخارجية, طمس معلم مهم من معالم الاردن, وجزء غير يسير من ذاكرة الاردنيين, والشعوب التي لا تحافظ على مفردات ذاكرتها, وفقا لنفس النقابي ليس لها حاضر, ولن يكون لها مستقبل, حتى لو ظل افرادها على قيد الحياة يقتاتون على ما تنتجه الشعوب والامم الاخرى, والامر حسب محمد ملحس ليس شخصيا, بوصفه أحد ابناء د. قاسم مؤسس المستشفى, بل يعتبر مستقبل المستشفى قضية كل اردني يحرص على ماضي الاردن وحاضره ومستقبله, صحيح ان النظر الى الامر بعيون رأس المال الذي لا يحمل هوية, ولا يعنيه الامر, الا بمقدار ما يحقق من مكاسب حسب محمد ملحس ايضا قد يفتح المجال امام خيارات اكثر ايلاما للاردنيين من تحويل المستشفى الى فندق او مول كأن يُهدم المبنى, ويبنى على ارضه مبنى تجاري باهت اللون, لكن مَنْ قال ان الاوطان تقدر بثمن, ومن الذي تمكن يوما من شراء التاريخ?
المؤسس
حتى يتمكن من لا يعرف تاريخ مستشفى ملحس, ومقدار الافراح والآلام التي عاشها الاردنيون داخل حجراته, او في باحاته او حوله, فانه من الضرورة بمكان اعادة التذكير بمؤسسه د. قاسم عبد الرحيم ملحس, الذي ولد في مدينة نابلس عام ,1904 وانهى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس نابلس والقدس, والتحق عام 1922 بالجامعة الامريكية في بيروت لدراسة الطب فيها, ولانه كان ناشطا سياسيا, وشارك في قيادة الفعاليات الطلابية داخل حرم الجامعة, فان ادارة الجامعة اوقفته عن التعليم في سنته الاخيرة, ما دفعه لاكمال الدراسة في جامعة دمشق التي تخرج منها طبيبا عام .1929
لم يتمكن د. ملحس من ممارسة مهنته في مدينته نابلس, بسبب ملاحقة سلطات الانتداب البريطاني له, فرحل الى الاردن عام ,1930 وافتتح له عيادة بوسط البلد, مارس فيها الطب والنشاط الوطني, ففي الوقت الذي كان يعالج المرضى بالنهار, كان يتواصل مع الثوار في الليل, خاصة خلال ثورة 1936 في فلسطين, فقد ظل يعالج جرحى الثورة في مخابئهم, وتهريبهم عبر الحدود من والى فلسطين, وفي عام 1942 سجن مع عدد من الثوار, لكن ايام السجن لم تطل كثيرا, ولعل الحادثه التي وقعت له في تلك الايام, حينما منع من معالجة مريض له في مستشفى اجنبي, فشعر ان كرامته الوطنية جرحت فاقسم ان يرد الاهانة ببناء مستشفى وطني في الاردن تشكل محور شخصية د. قاسم ملحس, فقبل ذلك التاريخ لم يكن في الاردن سوى المستشفى الايطالي وهو مستشفى خاص بارسالية دينية, وبالفعل تكللت جهود الرجل بافتتاح اول مستشفى وطني في الاردن عام 1945 فتسجيل المستشفى بوزارة الصحة وفقا لاوراق د. قاسم الموجودة لدى نجله محمد تم في 14 ايار من عام .1945
الطبيب الانسان
التجارة والطب لا يجتمعان في هذه العبارة تكمن فلسفة د. ملحس في الشأن الخاص بعمله كطبيب, فرغم انه اسس المستشفى في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية بالغة الصعوبة, ما جعله يبذل جهودا جبارة خلال فترة البناء, وبعد ذلك لتأمين الاجهزة الطبية وتشغيلها, وتوفير البنية التحتية اللازمة لادامة العمل في المستشفى, وتوفير الكادر الفني المدرب القادر على خدمة المرضى على اكمل وجه, ورغم انه كان رياديا في سد الفراغ الذي ظل سائدا, لجهة حاجة الاردنيين في تلك الايام لمستشفى يقدم لهم المعالجة, ورغم ان الفرص كانت مواتية له لمراكمة ثروة كبيرة, والتوسع في اعماله, الا انه آثر ان يلعب دور الطبيب الانسان فلازمته ظلت وفقا لمحمد ملحس الطب والتجارة لا يجتمعان.
وهو كما يبدو السبب المباشر الذي جعل نهاية القصة تراجيديا, ببيع المستشفى في المزاد العلني بعد مرور 62 عاما على تأسيسها.
الاردنيون من انقى واخلص الشعوب كما يقول محمد ملحس وكما كان والده يردد دائما, وهذه القناعة لم تتشكل لديه ولدى والده كما يقول محمد بعدما كرم الشعب الاردني د. قاسم في حفل خاص عام 1972 تحت شعار الرجل الذي اعطى ولم يأخذ بل قبل ذلك بسنوات طوال, فلولا قناعة د. ملحس بوفاء واخلاص وطيبة الشعب الاردني, لما كان هو نفسه بذات الروحية التي تعامل فيها مع الناس, مرضى كانوا ام اصحاء, اغنياء ام فقراء فالدكتور ملحس لم يحدد يوما اجرا لعمله في العيادة او في المستشفى, فما يستطيع المريض دفعه يكفي, ومن لا يستطيع فانه كان غالبا ما يشتري له الدواء من ماله الخاص.
درب القاسم
لمن لا يعرف د. قاسم ملحس او احد افراد عائلته او مستشفاه وتاريخها, تبدو كلمتي درب القاسم غريبة, يمكن لها ان تنسب لاحد مؤلفي كتب التراث, لكن للعارفين فأن درب القاسم رسالة كتبها د. قاسم ملحس لنجله د. عبدالرحيم بعد ان اصبح طبيبا مطلع ستينيات القرن الماضي, ولاحقا قامت ادارة المستشفى بطباعتها وتعليقها داخل برواز على احد جدران بهو المستشفى, والرسالة تنم عن حس انساني يفوق في تصور عدد من الكتاب الاردنيين مِنَ الذين كتبوا عن د. قاسم مقالات في رثائه بعد وفاته عام 1985 مشاعر كثير من التراث الانساني.
يقول د. قاسم في رسالته درب القاسم:
* تعرف على جغرافية البلاد من مدينة وقرية وخربة وجبل ونهر فلكل ارض مرض.
* لا تجعل ميزان عملك الدراهم.. ان اخذت كثيرا من الغنى فاحفظه لتعطي الفقير.
* لا يغشنك المظهر الخارجي للمريض.. فليس كل من كان لابسا او نظيفا يملك المال.
* لا تترك مريضا ولك عليه دين.. سامحه بما لك عليه, يرجع اليك.
* لا تستغل حاجة المريض اليك.. اعمل اولا لانقاذه.. وبعدها اذا اختلفت معه او مع اهله فذلك أمر آخر..
* حسن علاقتك مع زملائك واعمل على تطوير تلك العلاقة.
* شارك مجتمعك افراحه واحزانه.
* حافظ على اسرار مريضك.
* تابع كل ما ينشأ من تطور في الطب فللمريض حق عليك ان تكون عالما.
* لا تتكلم بالتجارة او تفكر بها لان الطبيب والتجارة لا يجتمعان.
* الطب رسالة.. اما الطبيب التاجر فيخفي الحقيقة.
د. قاسم ملحس في عيون الاردنيين
كتب فوزي القسوس في صحيفة الدستور بتاريخ 13 تموز من عام 1985 مقالة سماها باسم صاحبها قاسم بن عبدالرحيم ملحس تحدث فيها عن والده الذي حدثه عن ثلاثة رجال جمعتهم عمان في مستهل تأسيس امارة شرق الاردن, اولهم عبدالله ابو قورة الذي أسس الكلية العلمية الاسلامية, وثانيهما عبدالرحيم جردانه الذي كان علما من اعلام الصيادلة الاوائل, وهو اول من فكر في صناعة الدواء, وهو الذي أسس شركة الدباغة, وثالثهم د. قاسم ملحس, حديث والد كاتب المقال انصب على الثلاثة الذين التقوا حول وجوب تطبيق المبدأ القائل عدو عدوك صديقك وكان ذلك إبان الحرب العالمية الثانية, وصعود نجم هتلر وقد التف حول هذه الفكرة العديد من الشباب المتحمس من شمال وجنوب البلاد, ومن السوريين والفلسطينيين وغيرهم, وكان معظمهم من سكان فندق فلسطين الملاصق لعيادة د. ملحس في شارع السعادة بوسط البلد, وبالقرب من الصيدلية العربية الكبرى - صيدلية عبدالرحيم جردانه- ومن مكتب سفريات عبدالله ابو قورة, ويسهب كاتب المقال لاحقا في وصف تفاصيل هؤلاء الرجال ... الخ, ويتساءل في النهاية: كيف لنا ان نكرم د.قاسم ملحس في مماته:
* هل تكريمه في اطلاق اسمه على شارع او زقاق? ويجيب كلا
* هل في انشاء مكتبة للطب العلاجي في احدى الجامعات? كلا
* هل في اتمام مشروعه الذي بدأ يرى النور في عجلون للطب الطبيعي العلاجي? ربما.
يتحدث د. زيد حمزه في مقالة له منشورة بجريدة الرأي بثمانينيات القرن الماضي عن القصص الكثيرة الخاصة بالدكتور قاسم ملحس كما رواها الذين عاشوا عصره, سلسلة من القصص تشبه الاساطير, من مواقفه الوطنية, وبطولاته الصامتة من دون جلبه او ضجيج اثناء ثورة .36
ويتحدث عصام العجلوني في مقالة له نشرت بتاريخ 20 أيار عام 1982 تحت عنوان الرجل الانسان عن مئات القصص الانسانية التي يتذكرها اهل عمان عن الرجل وعن المستشفى, وكيف كانت عيادته مكتبا لتسجيل ونقل المتطوعين للثورة الفلسطينية, وتحدث اسامة شعشاعة في مقالة منشورة عام 1971 عن مناقب د. قاسم ملحس, وعن اهم انجازاته وفي مقالة لهاني خير منشورة بالدستور عام 1985 تتحدث عن د. قاسم ملحس بوصفه شيخ الاطباء والمجاهدين.
المستشفى تتعثر
بعد وفاة د. قاسم ملحس عام 1985 اسس ورثته شركة مساهمة خاصة للخدمات الطبية والانسانية لادارة المستشفى وأعمال أخرى, ولكن الأهم من ذلك ان والدهم ورثهم اخلاقه, خاصة في البعد المتعلق بالعمل, ما جعلهم يولون الجانب الانساني جل اهتمامهم ليس فقط في اسم الشركة بل في برامج طرحوها حينذاك لخدمة المجتمع, فقاموا بتوفير الخدمات الطبية المنزلية, وكانت تلك الخدمة قبل ذلك غير معروفة في الأردن وأسسوا اول مركز للسمعيات والنطق, ودارا للمسنين, واول نظام للرعاية الصحية تأمين صحي نظام يرتب على المشترك فيه قسطا شهريا 5 دنانير مقابل خدمات المعالجة داخل المستشفى وخارجه, واشترك في هذا النظام 23 ألف مواطن, وفي عام 1989 بدأوا بتوسعة المستشفى ولاحقاً قاموا بتوسعته من جديد عام ,1997 ما دفعهم للجوء للاقتراض من البنوك, فالمستشفى حينما توفي والدهم لم يكن يمتلك سوى الديون عليه فوفقا للدكتور زيد حمزه كما جاء في مقالته فان ابناء د. قاسم ملحس حينما تسلموا ادارة المستشفى بعد وفاة والدهم اكتشفوا ان المستشفى مدينة لاكثر من بنك, ومع ان الورثة حاولوا بكل جهدهم وما اكتسبوه من خبرات لتجنيب المستشفى النهاية التي وصل اليها, بأن سعى د. عبدالرحيم مدير المستشفى حينذاك محمد وهو اول اردني يحصل على درجة جامعية في تخصص ادارة المستشفيات بكامل طاقتيهما لانجاح العمل في المستشفى, اضافة الى ما قدمته الشقيقات الا ان المستشفى لاسباب موضوعية خاصة بموقع المستشفى وظهور عدد غير قليل من مستشفيات القطاع الخاص في عمان في تسعينيات القرن الماضي, ما جعل المنافسة تحتدم بينها وبين القديمة التي اخذت تتوسع وتطور تجهيزاتها, واسباب ذاتية خاصة- ب¯ درب القاسم والاخلاق التي ورثها الورثة عن د. قاسم ملحس لا سيما ان ذلك جاء في زمن الخصخصة وسيطرة آليات السوق.
مستشفى ملحس اليوم برسم التحول الى فندق او مول وهذا من شأنه الاساءة للاردن والاردنيين, والانكى من ذلك ان الجهة التي تتوجه لتغيير احد ملامح عمان هي جهة غير تجارية, وهي جهة مشهود لها بمواقفها الوطنية, فلم تشهد اقدم نقابة مهنية- نقابة المحامين- ان كانت طرفا في طمس تاريخ الاردن, لذلك فان الأولى لنقابة المحامين ان تبحث بشكل جدي عن اعادة الحياة للمستشفى, وقد يكون من المناسب في هذا السياق ان تبادر وزارة الصحة لاستئجار مبنى المستشفى او شرائه, وتحويله الى مستشفى حكومي, خاصة ان الحكومة تتحدث عن انشاء مستشفى حكومي جديد في عمان, وتستطيع الصحة رفع سعة المستشفى الى أكثر من ضعف عدد اسرته.0
العرب اليوم - محمد ابوعريضة