معتصم مفلح القضاة
في زمنٍ تبدلت فيه المفاهيم وتغيرت فيه القيم أصبح الطبّال فناناً، والشاعر والمخترع فيه ضربٌ من جنون، وأصبح اللص ينام قرير العين على فراشه الوثير. وعين الشريف تساهر الهموم وتغازل فنون الاسترخاء التي طالما شعر بها.
في زمان مضى وعلى مقربةٍ من ذات المكان بدا صوت الضجيج يملأ الأرجاء، لم يكن من مهرب الهرج والمرج سوى صوت ( مسعود ) تتدجرج على أرض الصف قبل أن يدخل الأستاذ ويقف في مكانه، ومسعود لمن لم يتتلمذ على يد الأستاذ فلاح القضاة، هو اسم العصا التي كان يستخدمها أثناء الشرح، ومثلها تلك التي كان يستخدمها زميله محمد العاصي، وهي لا شك من نفس الشجرة التي كنا نستظل تحتها، رمانة لا حلوة ولا حامضة، يكاد صوت رنينها يملأ الأرجاء.
لكلا المدرسَين الحب والتقدير مع كل ما تألمت أيادينا، ومع كل ما بذلوا لغرس مفاهيم التربية والتعليم في نفوسنا.
كانت قناعتنا الراسخة أنهما وغيرهما رديف للبيت والمجتمع والإعلام ورديف للوطن بمكوناته الواسعة.
كانت وما زالت ثمرات صبرهم أمانةً في أعناقنا، ليست أمانةً آنيةً بل مستمرة، كالعصا التي يستعملها الرياضي في سباق التتابع.
في الزمن الذي تبدلت فيه القيم والمفاهيم، لم يعد لـ ( مسعود ) مكان، بل إنّ شجرة الرمان قد جفّت وذهب ظلها. ولم يبقَ من ذكريات ذاك الزمان سوى طبشورة ولوح فارغ. أما المعلم فسلام على زمن المعلمين.
أصبحت مهنة التعليم طاردة، وكثير ممن رأيت مؤخراً يتمنى الخلاص، بل إن الكثيرين يتمنى لو بقي معلماً ولكن بعيداً عن وطنه وأرضه.
سلام على زمن المعلمين ليس انتقاصاً من قدر المعلم اليوم، لا سمح الله، بل انتقاصاً من ذوقنا في التعامل مع المعلم ورسالته وجهده، فالمدرس قبل أن يسطر سطراً، وقبل أن يعلم حرفاً إنما هو يتعامل مع ثلاثين روحاً وثلاثين نفسية بل وثلاثين أسرة في آنٍ واحد.
المعلم ليس كالطبيب ولا كالمهندس ولا كالمدير، فمن يأت إلى الطبيب يأتيه مستسلماً دافعاً رغم أنفه. ومن يأت إلى المعلم اليوم، يأتيه بكل ما في مجتمعه من تناقضات النفاق والإخلاص ، الكراهية والحب، التسامح والعداوة.
المعلم اليوم اختار طريقه، ومع قناعتي بأن الإضراب ليس حلاً، ولا ينبغي أن يكون منهجاً في التعاطي مع المشكلات، إلّا أن ناقوس الخطر يُدَق، وعلى المعلم الصبر وعلى المجتمع أن يبادر بصياغة الحل الجذري الشامل، لا نريد لمشكلة قلّة من المعلمين الذين قصّروا في أداء واجبهم أن تنصبغ على المعلم المبدع. كما لا نريد لمشاكل التعليم العالي أن تلقي بطيفها على نتائج ومخرجات التعليم المدرسي.
كنت أتمنى أن نسمع مبادرات حقيقية من نقابات الطب والهندسة وهوامير التجارة عرفاناً لما للمعلم عليهم من فضل، ولكن للأسف ترك المعلم حتى اللحظة وحيداً…
المعلم اليوم قادر ولكنه إن بقي وحيداً فلا مكان للطبشورة غير المستودع، ولا شيء يكسو اللوح سوى الغبار.