عن أبي ذر – رضي الله عنه - قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله – صلى الله عليه وسلّم - : أيهما أفضل؛ أمسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلّم - أم بيت المقدس ؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلّم - : ( صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه ، ولنعم المصلى هو، وليوشكن لأن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً ) .أو قال: ( خير له من الدنيا وما فيها )
حديث صحيح، وقد صححه الطحاوي، والحاكم والذهبي، والألباني .
وحسنه المنذري .
لَأول ما يسترعي انتباه القاريء للحديث النبوي الشريف نص سؤال صحابة المصطفى رضوان ربي عليهم الدالّ على عظيم مكانة المسجد الأقصى المبارك في أذهانهم و قلوبهم التي بلغت حد التساؤل أتغلب أفضليته فضل مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وذاك ليعكس مدى تعمّق فهم الجيل الفريد الأصيل المنشأ لأهمية المسجد الأقصى ، كما يعكس تعلقهم فيه وحرصهم على السؤال عنه وهم بين يدي معلمهم ومربيهم عليه أتمّ الصلاة والتسليم ، أما عن أرواحهم المرتحلة في جنبات بيت المقدس فاسأل مَن شدّوا إليه الرحال فقصدوه فاتحين رهبان ليل فرسان نهار وتعهدوا مسجده بالوعظ والإرشاد ، فطاب لمنهم السكن والاستقرار فيه حتى احتضن تربها رفات بعضهم ، ولتُحدّث مقبرةُ باب الرحمة بالقرب من سور " المسجد الأقصى " أخبارها عن قوم نذروا النفوس لربهم ومضوا يسعون للإبرار بالنذر .
وفي جواب المحبوب صلوات ربي عليه تتناثر سبحات مقدسية و نسيمات روضة الحبيب في مسجده العامر
لتهب في قلوب المشتاقين التي أعياها أنين حنينها إلى المسرى الأسير ، فبعد أن بيّن عليه الصلاة والسلام بأن الأفضلية تُقاس بأجر الصلاة فكان أجر الصلاة في مسجده النبوي أربعة أضعاف أجر الصلاة في المسجد الأقصى ، يُقرّ لنا فضل المسجد الأقصى بقوله : " ولنعم المصلى هو " حيث يعود الضمير المنفصل " هو " إلى مسجد بيت المقدس ، و " نعم " فعل من أفعال المدح ، وفي ذاك تشريف للمسجد الأقصى يُضاف إلى قائمة فضائل هذا المسجد المبارك أن امتدحه عليه الصلاة والسلام ، ألا وإن من عظيم تجليات هذا الحديث النبوي الشريف صدق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " وليوشكن لأن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً " ، ومعنى الشطن : الحبل ، وقيل الحبل الطويل شديد الفتل وسمي الشطن بالحبل لبعد طرفيه وامتداده .
يذكر هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم زمنا يتمنى المرء فيه أن يكون له مكان من الأرض قريب من بيت المقدس ولو بقدر حبل الفرس ليتمكن فقط من رؤية بيت المقدس من ذاك البعد فتكون تلك أغلى أمنياته وخيرا له من الدنيا جميعا ، وفيما سبق إشارة و بشرى ، أما الإشارة ربما يحفزها سؤال سائل : لماذا اكتفى الرجل بأمنية الاقتراب من بيت المقدس جغرافيا ولم يدخله ؟ ، فلعل الحديث قصد زمان يُمنع فيه المسلمون من شدّ الرّحال إلى المسجد الأقصى وتُسدّ دروبهم إلى بيت المقدس ويبلغ الأمر من الصعوبة ما يبلغ من تشديد الحصار حول بيت المقدس والتضييق و الإغلاق بشتى السبل ، وخنق المدن في جدار فصل عنصري عازل ، فتغدو زيارة بيت المقدس محالا و الصلاة في المسجد الأقصى لهاث المتضرّعين في جوف الليل أن يكتبها الجواد الكريم لهم قبل الممات ، وإنّ المتتبع لأحوال بيت المقدس يومنا هذا ليجد كل ذاك حتى وصل الأمر إلى إخراج المقدسيين من ديارهم وتفريغ بيت المقدس من أهلها في مخطط الاستفراد بالمسجد الأقصى المبارك وحيدا ، وأما البشرى في حديث حضرة إمام المرسلين ففي وصفه حال ذاك الرجل الذي باتت بضعة أشبار تفصله عن بيت المقدس خيرا من الدنيا ومافيها جميعا عنده لا لشيء سوى لتتكحل عيناه برؤياها وتلك حال الصادقين البالغين من فرط شوقهم أن تقرحت أكبادهم من حرّ النوى لمسرى سيدهم ومعراجه ، فإن كان للمسجد الأقصى رجالا كهؤلاء الذين أشار إليهم الحديث فخيرا نستبشر بجيل أضحى همه رؤية أرض المسرى ومصلى الأنبياء وتلاشت الدنيا بكل ما فيها من قلبه حتى جرّعه شوقه أنينا لها فصاح به الأنين ألا رويدا ، وحقا نعيش في زمننا صدق بشريات المصطفى عليه الصلاة والسلام فقد وعينا رجالا حول بيت المقدس وعلى أبواب مسجده المبارك خرجوا للموت شُمّ الأنوف كما تخرج الأُسد من غابها يمرون على شفرات السيوف ويأتون المنية من بابها ، فعليك سيدي الصادق الأمين أتم الصلاة و أزكى التسليم كلما في الأقصى علت حَيّ على الفلاح و كلما إلى الأقصى اشتاقت الأرواح و كلما سال في بيت المقدس مسك وفاح .
فدوى إبراهيم