قبل عام من الغياب، وفي السابع والعشرين من حزيران 2009 رحل الكاتب والمفكر الكبير جورج حداد، وترك فراغاً كبيراً، لا يمكن أن يملأه كاتب سواه، فقد كان جورج حداد كاتباً لا تملك إلا أن تقرأ له وتحترمه، إن لم تُكِنَّ له الإعجاب والتقدير، وكانت زاويتة (على الدرب) محط متابعة واهتمام وتقدير كل مثقف، وكان الجميع ينتظر (هزة غرباله) كل خميس على أحرَّ من الجمر، وهذه الهزة (المحصول) كانت مجموعة من الأفكار المبنية على الحكمة والخبرة والبصيرة، تصلح كل منها أن تكون مقالة مستقلة، بل إنَّ كل فكرة منها تُغني عن مقالة كاملة.
كان جورج حداد واسطة العقد للكتاب الصحفيين الأردنيين –مع احترامي وتقديري لهم جميعاً- ولا أبالغ إن قلت إنَّه كان حكيم الكتاب الأردنيين وعميدهم، كونه كان يحظى بتوافق الجميع ولا يختلف عليه أحد.
ولولا اسمه الدال على مسيحيته لحسبت أنك تقرأ لإسلامي متشدد، وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أنَّ هموم الوطن والأمة لا يختلف عليها أحد مهما اختلفت عقيدتهم وأيدلوجيتهم إن توفر الإخلاص والولاء والانتماء للوطن والأمة.
نعم، كان جورج حداد إسلامياً أكثر من الإسلاميين، ووطنياً لا يشك في وطنيته أحد، وعربياً عاش ومات مهموماً بقضايا الأمة، داعياً إلى وحدتها عبر وحدة الأقاليم أولاً، ومبشراً بعزتها يوماً ما، ومنبهاً للأخطار التي تتناوشها من كل حدب وصوب، من الداخل والخارج على حد سواء.
كان جورج حداد مبشراً متفائلاً رغم الخطوب والسواد الذي يغشى كل شيء، ورغم الواقع المر الأليم، ورغم الضعف والهوان الذي تمر به الأمة، كان قلمه ينثر عطراً، ويرسل إضاءات لتنير طريق السالكين، يضع يده على الجرح بلطف الطبيب ورقته، لم يسيء لأحد يوماً، ولم يتقن فن القدح والذم ونشر الفضائح والأسرار، ولم يُعهد عنه أنه تصيد يوماً في الماء العكر.
كان يعيش في النور تحت أشعة الشمس، لا يطيق الظلام، ولا يحب الحياة خلف الستائر والحجب والكواليس، يكتب كلماته من مداد قلبه، ويسبغ عليها حبه وحنيته، وإن قست حروفه وبدت للبعض إبراً ودبابيساً.
تتلمذتُ كعشرات الألوف من القراء على مقالات جورج حداد، وبهرنا بقوة حجته، وثاقب بصيرته، ولطيف عبارته، وثباته على مبادئه، لم يتغير ولم يتلون يوماً ما، مذ عرفناه وحتى انتقل إلى ربه.
وهذا التنوع الكبير في كتابات جورج حداد بين شعر وسياسة وأدب وأغانٍ يؤكد موسوعية الرجل واشتغاله على هموم وطنه وأمته، ولو كان ممن يبيعون أقلامهم، أو يرهنونه لموقف مشبوه، لكان من أصحاب الحظوة والمكانة هنا وهناك.
لم يهادن جورج حداد أحداً، ولم يساوم على موقف، ولم يغير رأياً ليتقرب من أحد، ولم يدنس قلمه بارتزاق وتزلف، وكان بإمكانه أن يتمحك بالمرحلية والمصلحة القومية، ولكنه كان نقي السريرة، عفيف القلم، طاهر اليد والقلب واللسان.
كان جورج حداد سنديانة أردنية ذهبت جذورها بعيداً في الأرض، وامتد ظلها إلى كل ناطق بالعربية أينما كان، وسيبقى محل احترام وتقدير كل من قرأ له سواء اتفق معه أو اختلف، وأظن أن الاختلاف معه شرف لا يملك أن يدعيه إلا قلم حر أو صاحب فكر ثاقب.
جورج حداد أيها الأردني البهي، المتلفع بعباءة العروبة، المكفن بكل الحب والتقدير والحزن، رحلت عن دنيانا، وارتحت من فتن نأيت بقلمك عنها، ولكنها تأبى إلا أن تشتد وتشتد، وما كان لقلمك الحر إلا أن يقول كلمته، وأراد الله لك الأفضل، فاختار لك الموت، فكان لك راحة وخلاصاً.
يا أبا مؤنس، عندما تدلهم الخطوب، وتشتد الظُلم، يبحث السائرون عن أصحاب البصيرة، وثاقبي الفكر، وأرباب الحكمة، وقد كنت منارة في خضم العواصف، وكنت واضحاً عندما تلون الآخرون، وكنت نقياً عندما تلوث أغلب من عرفت، وكنت ثابتاً عندما انتكس وارتكس أهل الأهواء وأرباب الدنس، وثق يا أبا مؤنس إنا (على دربك) سائرون، وسيبقى (غربالك) لنا فرقاناً بين حقنا وباطلهم، بين طهرنا ودنسهم، بين سمونا وخستهم، بين دربنا المستقيم واعوجاجهم.
mosa2x@yahoo.com