زاد الاردن الاخباري -
-أقفلت أم علي ابواب المركز الوطني للصحة النفسية على ابنتها ميس ذات الخمسة عشر ربيعا، لتبقى اسبوعين ريثما يتسنى للاسرة اجتياز حفلة زواج الابنة الكبرى، على ما افادت هذه الريفية الخمسينية التي عبرت عن خشيتها من انفراط عقد الزواج اذا ما اكتشف اهل العريس وجود هذه الحالة المرضية في الأسرة.
و"ميس" التي لجأت اسرتها الى مواراتها خلف قضبان المستشفى، واحدة من الاف الاردنيين الذين يراجعون نحو 13 عيادة نفسية حكومية في مختلف مناطق المملكة، وسط ارقام رسمية تؤكد أن في المملكة نحو مليون شخص يعانون أشكالا متباينة من الأمراض النفسية.
وفي أحد شوارع عمّان الشرقية، كان محمود يهيم على وجهه أشعثا أغبر، وذا لحية متهدلة، وتبدو عليه آثار تعب وجوع، وهو منهمك في استجداء المارة، حتى بات علامة فارقة لهذا الشارع الذي يعج بحركة نشطة.
ووسط غياب دراسات مسحية شاملة وجادة لتحديد عدد مصابي الامراض النفسية، فان مصادر متطابقة، من بينها منظمة الصحة العالمية، تؤكد ان التقديرات توضح أن في أي مجتمع من المجتمعات هناك بين 20 -25 بالمئة من افراده بحاجة الى خدمات الصحة النفسية.
وحسب ارقام رسمية فان نحو خمسة وعشرين الف شخص راجعوا عيادة عمان الاستشارية عام 2008 ، بينما راجع عيادات المركز الوطني اكثر من 24 الفا، وجاءت عيادة البشير ثالثا بنحو 17 الف مراجع.
ويندرج تحت قائمة الامراض النفسية، القلق والاكتئاب والمخاوف المرضية والوسواس القهري ومتلازمات التعرض للازمات التي تشكل النسبة الاكبر من الامراض النفسية، اضافة الى الامراض العقلية، فضلا عن امراض عقلية تفقد المصاب تواصله الطبيعي مع محيطه.
ولاحظ أمين عام المجلس الاعلى للعلوم والتكنولوجيا الدكتور عادل الطويسي، اشتباكا في الفهم المجتمعي للصحة العقلية والنفسية، ما ينتج تصورا سلبيا مسبقا يرى الاصابة اضطرابا عقليا، ما ينعكس سلبيا على امكانية اجراء دراسات ميدانية حقيقية، اذ تحجم الاسر عن الافصاح عن اصابات افرادها.
وفي المملكة 70 طبيبا وطبيبة نفسية، ما يعني حسب دراسة اعدها المجلس الاعلى للعلوم والتكنولوجيا، أن طبيبا واحدا لكل 100 الف اردني.
وقال الطويسي ان هناك نقصا في كوادر الصحة النفسية اذ تؤكد دراسة المجلس أن في المملكة سريرا واحدا في الصحة النفسية لكل عشرة الاف اردني، ما يعني ضغطا مضاعفا على مقدمي خدمات الصحة النفسية.
وفي وزارة الصحة 18 طبيبا متخصصا في الامراض النفسية و180-200 ممرض وممرضة قانوني ومشارك ومساعد ممرض .
وبعد أن لفت الى تعريف الصحة النفسية الوارد في دستور منظمة الصحة العالمية بصفتها "اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرّد انعدام المرض أو العجز"، أوضح الطويسي أن الجهود المحلية لا تعدو كونها علاجية لا وقائية، وهو ما يتعارض مع مفهوم الصحة النفسية العالمية.
من جهته، قال رئيس الاختصاص في المركز الوطني للصحة النفسية الدكتور نبهان ابو صليح ان عدد المتخصصين في التمريض النفسي لا يتجاوز ستة ممرضين، وبذا يجري سد النقص من خلال التخصصات التمريضية الاخرى، باخضاع الممرضين لدورات مكثفة في التمريض النفسي.
وأوضح أن هناك عزوفا في اوساط الاطباء والممرضين عن تخصص الطب النفسي، ومرد ذلك عدم وضوح طبيعة العمل في مستشفيات الامراض النفسية، وهو ما يتزامن مع ما يسمى "وصمة العيب" والصورة الذهنية السلبة حيال هذا العمل الانساني.
واضاف ان ما يفاقم اوضاع هذا التخصص هو تغييب بند في موازنة في وزراة الصحة للصحة النفسية.
عالميا، يبدو الوضع مغايرا بشكل جذري عما هو عليه في الاردن، اذ تعلن المملكة المتحدة مثلا عن إغلاق مزيد من المصحات النفسية وتقليص عدد الأسّرة النفسية، بفضل سياسة تقوم على اعتماد العلاج الشامل والحيوي وليس الطب النفسي فقط، بينما تذهب دول العالم الثالث ومن بينها الاردن الى اعتماد دواء الصدمات الكهربائية.
ووفق معلومات مصادرها متطابقة، فلا وجود للعلاج التكاملي في الاردن، ما يوقع المريض النفسي في دائرة الخطر التي تقوده إلى الانتحار أو محاولة الانتحار.
وترجع مصادر منظمة الصحة العالمية عزوف الاسر عن مراجعة الطبيب النفسي الى فهم نمطي للمريض بصفته "فاقدا للعقل او مجنون".
وحسب ارقام دولية فان نحو مليون شخص يموتون سنويا بالانتحار؛ وبذا يكون عدد الوفيات 16 حالة لكل 100 الف انسان، أو وفاة واحدة كل 40 ثانية.
من جهته، قال وزير الصحة السابق الدكتور سعد الخرابشة، ان هناك حواجز تحول دون المعالجة الفعالة للمرض العقلي، واهمها عدم الاعتراف بخطورة المرض وغياب التفاهم حول فوائد خدمات الصحة النفسية، بين واضعي السياسات وشركات التأمين ووزارة الصحة والجمهور .
ويعاني المرضى النفسيون في كثير من الأحيان ظلما اجتماعيا واسريا، إذ تتعرض نسبة كبيرة منهم إلى طائفة واسعة من انتهاكات حقوق الإنسان، في مقدمتها "وصمة العار" والنظرة الاجتماعية العامة التي تتعامل معهم بصفتهم منبوذين، إضافة إلى فشل الكثير منهم في الحصول على الرعاية التي يحتاجونها.
وتتجلى قسوة بعض المجتمعات المحلية والأسر مع المصابين باضطرابات عقلية في طردهم خارج المدن والتجمعات السكنية، حيث يتركون شبه عرايا أو في أسمال بالية، فضلا عن تقييدهم وضربهم وتركهم جوعى، وتكبيلهم بأصفاد معدنية، وهو ما يلاحظ داخل مراكز الايواء الخاصة بهؤلاء المرضى.
وترصد دراسة المجلس الاعلى للعلوم والتكنولوجيا تدني الحد الأدني للمستوى العام للنظافة في مركز الكرامة للتأهيل النفسي إذ تنتشر الروائح الكريهة في المكان، حيث لا يستخدم عمال النظافة المنظفات الكيماوية، بينما تنتشر أواني أطعمة قديمة تحت أسرة المرضى وهي تعوم فوق ماء آسن، إضافة إلى أن غرف الاستحمام مغلقة.
وترسم الدراسة صورة مأساوية لكفتيريا العيادة الخارجية في المركز، اذ تبدو في حالة رثّة جدا، وبلاطها مخلوعا وجدرانها قذرة ومتسخة.
وحسب الدراسة فان شركة خاصة تتولى أعمال النظافة في المركز وينص عقدها مع وزارة الصحة على توفير (62) عاملا بينما لا يتجاوز عددهم الفعلي ثلاثين عاملا، وتقوم الشركة ذاتها بأعمال الطبخ في المركز.
ولا يبدو مطبخ المركز، كما تفيد الدراسة في حال أحسن من المرافق الاخرى، فهو " لا يقدم وجبات بعدد كاف، وتنقصه تجهيزات وأدوات".
و"يحبس مرضى مركز الكرامة على أسرة مثل الأقفاص، ويحرمون من الملبس أو الفراش اللائق أو المياه النقية أو المراحيض الملائمة، ويتعرضون لإساءة المعاملة والإهمال"، حسب دراسة المجلس الاعلى للعلوم والتكنولوجيا، الذي يؤكد أمينه العام الدكتورعادل الطويسي، أن المجتمع يحصد خيبات سلوكه تجاه مرضى الاضطرابات النفسية والعقلية عبر تكريس القناعات المسبقة عنهم، بينما يحتفي العالم المتقدم بهم بصفتهم بشرا ينزلهم منزلة تليق بالانسان.
(بترا)