كنت في المدرسة عندما طلبت مني المعلمة أن أقوم بكتابة تقديم أقدم به دبكة ستعرضها الطالبات في حفل ختام نهاية العام، ولما كانت الدبكة باسم بلاد الشام توجب علي أن أذكر في التقديم كل من الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان، أذكر حينها أن والدتي قد اقترحت علي أن أفتتح التقديم بأبيات شعرية للشاعر السوري فخري البارودي تقول: \"بلاد العرب أوطاني، من الشام لبغدان، ومن نجد إلى يمن، إلى مصر فططوان\".
مع تلك الأبيات بدأت رحلتي في استكشاف معالم الوطن العربي الكبير الممتد من المحيط إلى الخليج، وكان من الطبيعي جدا أن أعرج أثناء أسفاري المكوكية المتواضعة على محطات راحت تتكشف لي أهميتها بمرور الوقت وهي تقودني جميعها إلى نفس الهدف والغاية ذاتها بالرغم من اختلاف الطرق وتباين الوسائل.
من أهم تلك المحطات وأكبرها كانت المحطة المصرية التي افتتحتها أحداث ال52 وانقلاب الضباط الأحرار وشعارات \"القومية العربية\"، مرورا بثورة اليمن وتشكيل كتلة عدم الانحياز وانتهاء بحرب ال67 ومؤتمر اللاءات الثلاث ثم وفاة عبد الناصر واندثار أوراق الحلم المورق على جبين الشمس أمام فقاقيع الوهم المغمسة بمرارة الهزيمة.
كنت مع كل كتاب أقرأه ومع كل تجربة أعيشها أشعر بقوة دافقة تحملني على أجنحة الحلم إلى فضاءات أعلى وأرحب وأبعد في أفق القومية العربية وأهدافها وأبعادها.
مرت السنين بعد ذلك حزينة وكئيبة وصامتة كرائحة الحرائق المنطفئة تبعث الأسى في أطراف مدن الحلم المهجورة، وأضحت شعارات القومية كالشهب البعيدة نسمع عنها ونعلم بصحة وجودها علميا وإمكانية مراقبتها ورصد أوقاتها للانقضاض على لحظة مرورها الواقعي إلا أننا لم نرها تبرق في سماء الحقيقة ولا مرة واحدة، ووصل بنا اليأس إلى نوافذ موصدة ونحن نذرف دموع الانكسار والهزيمة لا في ال67 بل في أعقابها عندما تآكل الحلم وراح يتحلل تحت تأثير تيار \"كامب ديفيد\" الذي جرف المنطقة ومستقبلها بقوة عارمة نحو القاع بعدما كنا نخطو خطوات واسعة وواثقة وثابتة نحو القمة.
أذكر هنا أن مسئولا كنديا بارزا وفي لقاء معه على قناة الجزيرة العربية وفي معرض جوابه عن استفسار المذيع عن قدرة إسرائيل بالرغم من صغر حجمها وقلة عدد سكانها قد استطاعت أن تتفوق على العرب عموما بالرغم من كبر مساحة الوطن العربي وحجم شعبه الهائل، أذكر أن جوابه كان بمنتهى البساطة والشفافية والواقعية يقول: \"هذا لأنكم تصرون على وضع العرب جميعا في خانة واحدة وجيش واحد وصف واحد مقابل إسرائيل، وهذا الوضع مجرد نظريات سطحية غير واقعية ولا ينم عن واقع الدول العربية التي تتباين بشكل كبير وتختلف فيما بينها اختلافا شاسعا في السياسات والأهداف والتطلعات المستقبلية والعلاقات الخارجية والمصالح الشخصية\".
كلامه كان مقنعا وواضحا ويفسر ببساطة أسباب الهزيمة العربية المتفاقمة منذ ال48 وحتى اليوم لا أمام إسرائيل وأمريكا فحسب بل أمام العالم الذي يهرول في ماروثون القوة المحموم، بل ويشي أيضا بأسباب الهزيمة الداخلية التي يتخبط العرب في أحشائها ما بين بعضهم البعض منذ خلاف معاوية وعلي على الحكم وصولا إلى خلاف فتح وحماس على السلطة.
الضوء الوحيد الذي بدأت ألمح بصيصه منذ فترة وجيزة في عتمة الأزقة الموغلة في الظلام الدامس واليأس المطبق كان قناة \"وطني الكبير\"، وهي قناة ليبية بدأت بثها التجريبي على النايل سات تزامنا مع مؤتمر \"سرت\" بعدما أخبرني عنها والدي الذي عاش حلم القومية العربية بحذافيره ودقائق تفاصيله عندما كان طالبا في جامعة القاهرة، وأصبحنا نجلس معا نستمتع بأغنية \"وطني حبيبي الوطن الأكبر\" وكمية هائلة من الأغاني الوطنية التي تثير فينا حماس الماضي وتوقظ في نفسينا حلما كان قد دخل في غيبوبة طويلة ميئوس منها، بالإضافة إلى الخطب الحماسية التي تشتعل وطنية وقومية وجرأة وقوة وعنفوانا، لست هنا بصدد عمل دعاية إعلامية للقناة إلا أنني سعيدة بقناة اخترقت الإعلام العربي الموجه نحو التشويه الفكري والانحلال الأخلاقي والتحلل الديني والتسطيح الثقافي والتهميش الوطني والانسلاخ القومي في محاولة متواضعة لإنعاش البعد القومي والانتماء الوطني في نفوس كلت من البكاء على أطلال نعشيهما، لتنطق بلسان الأمة العربية ومن وجدان الوطن العربي الكبير.