أنا أملك راتب شهر بأكمله.. أمضيت الشهر وأنا أسعى هنا وهناك ، أستنطق هذا ، وأستكتب ذاك ، أنفرد بخبر ، وتحترق أعصابي كلها لمجرد إحتراق خبر بين يدي.. أرصد تحركات فلان وعلان ، وأحلل غضب فلانة ، أشارك بمتابعة أخبار حروب العالم جميعاً ، لمحاولة الوصول الى النتيجة أو تباين بعض الملامح...
ويبدأ العد التصاعدي ، ومن ثم التنازلي لنصل أخر الشهر أكتب عن جميع البشر ، عن الفقر والجوع التاريخي ، وشظف العيش لمئات ومئات من البشر ، فالكل أراه مأساة ، وأنسى مأساتي أنا....
قبل أن يأتي الراتب بيوم أو يومين تكون محفظتي قد فرغت تماماً ، فأبحث عن بقايا قروش هنا وهناك ، أدفع بها لسائق السرفيس لأصل مكان عملي ، أحس اكثر بمشاعر الجوع والإحباط ، أصبح أكثر شفافية ورقة وأشارك العالم بالمًعدة الخاوية وأعلن التقنين والتقشف.. أمسك بيدي على معدتي الخاوية فأقول هذا هو\"الريجيم\"، الذي تتفنن به أخصائيات التغذية ، وتنتابني فلسفة الرقة والشعور مع البائسين والمعذبين في الأرض ، أتعجب كيف بإمكان إنسان أن يتناول وجبة واحدة جافة ، وأتعجب كيف أنهم يضحكون بعمق وسرور ، أكثر من أولئك الذين تجد على موائدهم مختلف الأصناف والألوان ، ووجوههم عابسة وكأن الدنيا مقلوبة أمامـهم... قبل أن اقبض الراتب أشعر أن الإنسان يعيش ليومه فقط ، لا يتوتر ولا يغضب يعمل وينتج ولا ينتظـر من الغـيب شيئـاً ، لا يأمل في المستقبل من شيء.. جيوش الكساد القاتلة توهمه أنه الأفضل لأن له وظيفة ثابتة... ويغرق في نوم عميق لبدء يوم جديد...
بعد أن يضع يده على أول ورقة خضراء أو حمراء.. لا يعود انتماؤه لتلك الطبقة المسـحوقة من الناس ، أو لأي طبقة ، الآن بإستطاعته أن يفعل ما يشاء ، شعور المتعة يراوده.. الآن سأعمل كـذا.. وسأشتري ... وسأذهب في نزهة ، لا برحلة.. ليس في الأردن لا.. سأخترق الحدود.. العالم كله يذهب برحلات ، ولما أنا لا.... لماذا لا تكون جولة حول العالم... خمس دقائق فقط يقضيها بالحلم إلا أن تنهمر عليه الأحلام شظايا ونيازك ومطر ، وتنفتح طاقة الجحيم من جديد....
فيتذكر الأفواه المفتوحة خلفه ، والدائنين والأقساط المتنامية كالفطر ، ما أجمل لحظة القبض على الراتب التي تعطي صولجاناً من الوهم والحلم ، ولا يستمر إلا دقائق ، بعدها تعود إلى العالم السفلي ، فتعود لتعيش ليومك فقط ، وتعود تنتظر لحظة القبض على الراتب... فأنت الفقير وستبقى الفقير... تفاءل لحظة... أنت الغني وسيعترف بك كل من عرفك أنك النقي الطاهر ، المخلص .. في زمن فقير....