مدنيون عـُزّل دفعهم إرهاب عصابات الـ\"هاجانا\" و\"شتيرن\" للنزوح..
هكذا ببساطة بدأت حكاية لاجئي فلسطين.. ظنوا أنهم عائدون في غضون أيام.. لكن كل خطوة خطوها بعيداً عن فلسطين كانت تُبعدهم عنها أميالاً..
حملوا فلسطين في وجدانهم.. الوطن الحلم الذي لا بد من العودة إليه.. فلسطين الجنة الموعودة والهوية التي ستـُرد إليهم يوماً.. مرت سنوات طويلة على اللاجئ وهو يحتفظ بمفتاح داره في يافا أو حيفا.. ليمرّ قبل أيام \"اليوم العالمي للاجئين\" على اللاجئ الفلسطيني في وقت يتضاءل فيه الأمل بالعودة بل ويتلاشى كالسراب كلما أحس بدنوه.. بالرغم من ذلك، فهو يأبى التنازل عن الحلم..
بعد فلسطين، عاش يكدح ليؤمن الحد الأدنى من الحياة.. داس على كرامته أحياناً ليجلب قوت أبنائه.. باكياً في عتمة الليالي حين لا يجد عملاً.. مضطراً أحياناً ليمد يده لـ\"وكالة الغوث\".. هكذا بعد أن كان له أرض وكيان، أمسى ذليلاً كسير النفس..
\"فلسطينيٌ\"، هكذا هو مكتوب على جبينه أينما حلّ. لاجئ، أسيرٌ، منفيٌّ، مُغتربٌ، رازحٌ تحت الاحتلال في الداخل، مكافحٌ في الخارج.. كلها اليوم نعوت للإنسان الفلسطيني الذي أضحى سجين مأساة الماضي، وأسير معاناة الحاضر، ورهين مستقبل مجهول يلفه الخوف وعدم الأمان..
مئات الآلاف بل ملايين اللاجئين الفلسطينيين في دول الجوار ينتظرون.. فقد مرّ أكثر من ستة عقود.. وقد يمرّ مثلهم.. وأفق العودة مسدود، فهم أمام عدو قوي يريد الإستيلاء على كل شيء، وفي ظل وضع عربي في غاية الوهن.. إنها القضية التي ستأخذ أجيالاً.. إنها المأساة التي ستأكل ما تبقى من سنوات العمر القصير دون أن تُسمع فيها أجراس العودة، لا ولا حتى في المستقبل المنظور.. فهذا الزمن وهذا الحال ينطقان بذلك، ولسان حال الوضع الراهن يقول أن \"لاعودة\".. لكن يبقى الأمل والإيمان أنه مهما طال الزمن، فـ\"لا بد لليل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر\".. أما متى، فعند الله مكتوب.
استغل الصهاينة مأساة \"المحرقة\" لينطلقوا منها يكتبون الروايات الحزينة ، بل ويُبالغون فيها، ويُنتجون الأفلام التراجيدية، بل ويكذبون فيها، مستدرّين من نفوس الأجيال الغربية اللاحقة للحرب العالمية الثانية كل العطف والتعاطف، لتتجه السياسات الغربية والرأي العام نحو الانحياز الكامل تجاه كيانهم.. فاكتسبوا بهذه الطريقة الدعم المادي والمعنوي في ضرب جذورهم في أرض فلسطين.
إن اليهود الذين عملوا المستحيل لأجل إثبات \"وجودهم\" في فلسطين قبل ثلاثة آلاف عام، واستطاعوا أن يحفروا في ذاكرة العالم مأساة محرقتهم الحديثة، ليس لديهم دلائل أقوى من تلك التي يملكها الفلسطينيون عما حدث في فلسطين في العصر الحديث.. فمهما فعل اليهود، لن يستطيعوا محوَ مأساة فلسطين في هذا العصر الذي تتوفر فيه وسائل الاتصالات والإعلام المتطورة..
لم يفُت الوقت بعد على العرب في استخدام الإعلام لشرح معاناتهم وكسب تعاطف الكثيرين الذين لا يعلمون عنها في هذا العالم. فلو كَتب كل لاجئ فلسطيني قصته منذ نزوحه عن فلسطين وما واجه بعدها.. أو سرد حكايته لتـُكتب أو تُمثل فيلماً مبنياً على تلك القصص الواقعية.. لأصبحت تلك الروايات من أهم وثائق القرن العشرين.. فعجلة العدل القادمة لا بد وأن تحتاج إلى الأدلة والبراهين. ليت اللاجئين يتنبهون إلى أهمية توثيق معاناتهم لتستخدمها الأجيال القادمة لإحقاق الحق.. وليت الحقوقيين العرب يُقدّمون هذا النوع من \"الجهاد\" في أخذ تلك الوثائق، والانطلاق بها عالمياً للاستفادة من القانون الدولي الذي لم يسبروا أغواره بعد.
يُقال أن \" ما أُخِذ بالقوة لا يُرَد بغير القوة\"، وبما أن التوازن العسكري مع العدو غير ممكن لدى الأمة العربية الآن ولن يكون في المستقبل القريب، فعلينا الأخذ بالأسباب الأخرى للقوى التي لدينا والتي نستطيع امتلاكها كالإعلام والتعليم ونشر الوعي والتمسك بالحق والعمل على إحياء كل مناسبات فلسطين الحزينة..
آن الأوان لأن نستخدم ما لدينا من أسلحة.. وليست تلك الأسلحة التي كلفت مليارات الدولارات وصَدِئت في المخازن لغياب الإرادة السياسية للتحرير، فقد فات الأوان على ذلك.. وإنما على العرب جميعاً أن يتحولوا عن صرف أموالهم المهدورة على الأسلحة إلى نواح جهادية أخرى.. عليهم أن يُساعدوا لاجئي فلسطين ويُقدّموا لهم ما يحفظ لهم كرامتهم الإنسانية، وذلك بتقديم خدمات التعليم والصحة والعمل وحرية التنقل بوثائق سفر في الدول العربية على الأقل.. فهذا الحد الأدنى لما يمكن أن يُقدم لأخوتهم المصابين.. فالواجب الإنساني والأخلاقي والديني يأمر بذلك. إن إعانتهم للاجئين على أن يكونوا جيشاً من المتعلمين والمهنيين والمثقفين والعاملين هو الذي سـيُحيي فلسطين عندما يدقُ أبناؤها أبواب الحرية بأيديهم، ويفتحوا جميع بوابات فلسطين الموصدة.
إن الشعب الفلسطيني هو من أكثر شعوب الشرق الأوسط جديّة وإقبالاً على العلم والعمل.. وبجده واجتهاده سيؤمن لنفسه حياة كريمة سواء في الخارج أو الداخل أو في المخيمات... إنه الشعب الذي يحمل بين ضلوعه حب فلسطين وحلم العودة إليها.. وليس من أهدافه أخذ أوطان الآخرين. فأعطوه الحرية ليعيش ويعمل ويجتهد.. فإنه سيُدهشُ الجميع.
هالة شرف الدين
7 تموز 2010