يقول الإمام الشافعي رحمه الله:" خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفِراسة حتى كتبتها وجمعتها, ثم لما كان انصرافي مررت في طريقي برجل وهو محتبٍ ( جالس ) في داره, أزرق العينين, ناتئ ( مرتفع ) الجبهة, سِناط ( لا لحية له أصلاً ).
فقلت له : هل من منزل ؟
قال : نعم.
قال الشافعي : فرأيت في وجهه الدناءة ( وهذا النعت أخبث ما يكون في الفِراسة ) فأنزلني فرأيت أكرم رجل, بعث لي بعشاء وطيب وعلف لدابتي, وفراش ولحاف, وجعلت أتقلب الليل أجمع, ما أصنع بهذه الكتب؟ ( أي ما قيمة كتب الفراسة التي تعلمتها في اليمن وقد أخطأت فراستي في هذا الرجل؟)
فلما أصبحت قلت للغلام: أسرج ( شد سراج الدابة استعدادًا للمسير) , فأسرج, فركبت ومررت على الرجل, فقلت له : إذا قدمت مكة ومررت بذي طوى فسأل عن منزل محمد بن إدريس الشافعي.
فقال لي الرجل: أمولى ( أعبد ) لأبيك أنا ؟
قلت : وما هو ؟ ( ماذا تقصد ؟)
قال : اشتريت لك طعامًا بدرهمين, وأدمًا بكذا, وعطرًا بثلاثة دراهم, وعلفًا لدابتك بدرهمين, وكراء (أجرة ) الفراش واللحاف بدرهمين.
قال الشافعي :قلت : يا غلام أعطه, فهل بقي من شيء؟
قال : كراء المزل, فإني وسّعت عليك وضيّقت على نفسي.
فغبطت نفسي بتلك الكتب. ( أي صرت سعيدًا أن هذه الكتب التي فيها علم الفراسة لم تخطئ)
فقلت له بعد ذلك: هل بقي من شيء؟
قال: امض أخزاك الله تعالى, فما رأيت قط شرًا منك."
انتهت قصة الشافعي وما انتهت قصتنا. وأخيرًا قد ينبئنا التفرّس في وجوه بعض الزعماء والمسؤولين والإنعام في قراراتهم أن المستقبل لن يكون زاهرًا واعدًا حتى ولو زعموا ذلك أو أكثروا من الوعود, فإن حدس العربي وفراسته لا تخطئ.
م. جمال أحمد راتب