د. بسام البطوش
شهد وطننا مؤخرا حالة من الحراك السياسي والفكري والاجتماعي،أتت في أعقاب سلسلة السياسات والتصريحات والقرارات الصادرة عن الدوائر الصهيونية،والمتمثلة في الدعوة إلى ما يسمى الخيار الأردني،والتلويح بخيار الدولة البديلة والوطن البديل،مترافقا هذا مع موت عملية التسوية السياسية، وممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على الأردن من جهات متعددة.ومن المتوقع في هكذا ظرف شعور الناس بالقلق، لكن السؤال الذي يفرض نفسه،هو كيف نقلق ؟ وكيف نواجه التحديات؟وهل هي تحديات جديدة وغير معهودة،لم يعرفها الأردن من قبل ؟ في حين أننا ندرك أنه منذ التشكل السياسي الأول للأردن وهو يعيش في قلب العاصفة،ويتحمل عبء مواجهة المشروع الصهيوني على أطول الجبهات،ويتلقى تبعات كبيرة جراء الظلم الصهيوني والدولي الواقع على الشقيق الفلسطيني.لكن هذا الحراك الوطني العام كشف أن البعض فقد بوصلته،وأن البعض غرق في التفاصيل، وأن أناسا انغمسوا في حالة من الجدل العقيم وجلد الذات،وأن البعض راح ينبش في ملفات تفوح منها رائحة الكراهية، وأن البعض الآخر بدأت نفسه تحدثه بالاستقواء لنيل مكاسب وتحقيق صفقات! كما أن البعض صدمنا بافتقاده لأبجديات الخطاب السياسي والاعلامي وهو يتصدى للقضايا الوطنية عالية الحساسية.
وفي الأحوال كلها فإن حماية الأردن من الأخطار الصهيونية أمر ضروري ومصيري ،وواجب وطني وديني ،لكنه بحاجة لبرنامج وطني وحالة من التوافق الرسمي والشعبي.ومن المؤكد أن الدفاع عن الهوية الوطنية الأردنية شيء مختلف تماما عن العبث بالنسيج الوطني الأردني،وإذا كان التكوين السياسي والاجتماعي والاقتصادي الأردني هو نتاج لظروف فرضت علينا جميعا؛فينبغي أن نعرف اليوم كيف نمنع الظروف الراهنة والمستقبلية من فرض وقائع جديدة، ضارة أوغير مرغوبة،هذا هو بيت القصيد فيما أعتقد،وهذا هو جوهر البرنامج الوطني المنشود.
وفي مقدمة ما ينبغي أن نعيه جميعا أن الأوطان تبنى بحكمة العقود والقرون لكنها تهدم بطيش الدقائق والساعات !! ولا أعرف كيف يمكن لوطنيّ أردني أن يواجه الصهيونية بافتعال حرب داخلية أو حتى بمجرد توهمها؟! ولا أدري كيف يمكن لمن يدافع عن الوطن أن ينزع المواطنة من نصف الشعب؟ هكذا،وبجرة قلم !! ولا أعلم كيف لوطن أن يتقدم ويستقر وينهض في ظل تحويل شرائح واسعة من مواطنيه إلى مجرد ضيوف؟! ولا أدري ما هي المواطنة التي يتحدث البعض عنها،ويطالب بمقتضياتها،إذا كان ينظر لنفسه ويطالب الآخرين أن ينظروا اليه على أنه مجرد مستثمر أو مقيم أومضطهد؟! ولا أدري كيف لأحد أن يدعي الوطنية وينشد المواطنة وهو ينظر للوطن على أنه مجرد ساحة للعمل أوالاستثمار أو المقامرة؟ولا أدري كيف لمواطن أن يستقر أو يشعر بالأمان أو أن يبني أو يعمّر أو ينتمي أو يوالي إذا كان يصحو في صبيحة كل يوم على بيان أو تصريح أو مقولة جديدة تصنّف المواطنين وتمنح هذا صكا للغفران وذاك صكا للحرمان ؟! أنا شخصيا أردني ولا شائبة تشوب أردنيتي حتى هذه اللحظة! لكن من يضمن أن بيانا سيصدر يوما ما سيحدد المواطنة بتاريخ ما قديم أو حديث سيعيدني قيسيا أويمانيا ؟ علينا أن نعترف بأننا نعاني من العبث بأقدس المقدسات المتعلقة بوحدة المجتمع وسلامة البناء الوطني واستقرار الدولة!
وهناك حالة من خصوصية العلاقة بين الشعبين الأردني والفلسطيني لا يمكن التعاطي معها الا وفقا لرؤى ومقاربات خاصة وخاصة جدا،وفي ظني أن البعض لا يتقن فهم مثل هذه الرؤى أو صياغة مثل هذه المقاربات! وهذه الخصوصية هي التي تجعل الفلسطيني في الأردن يستهجن ولا يفهم ولا يستشعر بشاعة السياسات العنصرية التي يذوق الفلسطينيون ويلاتها في دنيا العرب! وهذه الخصوصية هي التي تسمح للأردني من أصول فلسطينية أن يحمل في قلبه وعقله ووجدانه الهوية الفلسطينية،وأن يحمل في جيبه وعقله وقلبه الهوية الأردنية،في اللحظة نفسها، ولو بحثنا في كل القواميس السياسية والدستورية والقانونيةعن فتوى لهذه الحالة الفريدة لما وجدنا شيئا!ولا نريد أن نجد !ووالله لو جار الزمان عليّ لا سمح الله ولا قدر،وأخرجت مكرها من الأردن كما أخرج أخي الفلسطيني من فلسطين لما استطاعت قوة في الدنيا أن تنسيني الطيبة قريتي أو الكرك منطقتي أوالأردن وطني هيهات هيهات . . . ! ولما سمحت لنفسي بمقايضة من أي نوع كانت،وهل لو أردت سأستطيع؟؟ ووالله لو استوطنت بلدا عربيا منحني ما منحه الأردن للفلسطيني لما ترددت أبدا في الانتماء له والولاء لقضيته والموت في سبيل حمايته والدفاع عنه! ولما ترددت أبدا في إعلان فضله عليّ ،وعلى رؤوس الاشهاد!! وفي المقابل ، وإذا ما أردنا أن نساير موجة النبش في الأصول والمنابت ؛ فماهوالمطلوب الآن من الأردني من أصول فلسطينية ؟هل يعودأم يرحل؟ولكن الى أين؟هل ينسى، ولكنها فلسطين؟هل يتخلى،لكنه الأردن؟هل يقول أنا أردني وأردني فقط ولاأعرف أصلا لي غير الأردن،سيقال له في هذه الحالة أنت تسير في المخطط الصهيوني للوطن البديل والتوطين!أم هل يقول أنا فلسطيني ولا أعرف هوية أخرى لي،سيقولون له أنت ناكر للجميل،وسيشككون في وطنيته!أم المطلوب أن يقول أنا أردني من أصول فلسطينية؛ فسيقولون له بيننا وبينك قرار فك الارتباط! وقبل ذاك قرار القمة العربية 1974!! وسيصدرون في حقه صك حرمان أو غفران وفقا لتوقيتات زمنية،وهكذا..!
نحن اليوم بحاجة لاعادة تعريف مفاهيم أساسية في العمل الوطني والسياسي ،وفك رموز رسائل مشفرة تحط دون سابق استئذان في تجاويف أرواحنا وضمائرنا ونخوتنا قبل أن تحط في صناديق بريدنا! نحن اليوم بحاجة لحكمة الحكماء، وعقلانية العقلاء، واخلاص المخلصين،ونحن بالتأكيد مطالبون بالالتفاف حول المضامين الأساسية الواردة في الخطاب الأخير لجلالة الملك،وأجد نفسي متفهما للنداء الذي أطلقه الدكتور صالح ارشيدات للتوافق على صيغة وطنية أو ميثاق وطني، نأمل أن يحفظ علينا سلامة وطننا ومجتمعنا وعقولنا وضمائرنا،ويجعل تناقضناالأساس مع المشروع الصهيوني،ويجمعنا على كلمة سواء،وينظمنا في صف موحد يحمي الأردن ويدافع عن فلسطين،ويحفظ حق العودة، ويرفض الانعزالية والشوفينية والمحاصصة والاستقواء ونكران الجميل،ويوجهنا جميعا لإسناد الجهود الملكية للتصدي للتحديات الكبرى التي تواجه الوطن؛ فالملفات الملكية مثقلة بهموم مواجهة الألاعيب الصهيونية وتحديات المديونية والمياه والطاقة والفقر والبطالة،وسبل إنجاز المشاريع الكبرى المتصلة بهذه التحديات الاستراتيجية . أما أن يتخلى الناس عن واجباتهم وينخرطوا في عملية نخر متواصلة للوطن والضمير والعقل ،فهذا أمر مرفوض ومدان،ويشكل انتهاكا لكل الخطوط الحمراء،يا أيها العقلاء.
Bassam_btoush@yahoo.com