زاد الاردن الاخباري -
من حسبان بدأ المشوار،حيث الحياة مازالت محكومة بالبساطة في كل شيء،وشح الامكانات المادية،والعمل بما هو متاح،ولم تكن حينها،استشارات،واستقدام خبراء اجانب،ولا اصحاب مبادرات،ولا اكاديميات او جوائز،ولم يكن الاستعراض الاعلامي،والظهور من اولويات القائمين على التعليم،وكانت المناهج والاساليب مستوحاة من البيئة،وحاجات الناس واولياتهم،قبل ان يتم استيراد اساليب تعليم لا علاقة لها بطبيعة وظروف واحتياجات المجتمع الاردني.
كان رجالات تعليم يدركون مسؤوليتهم تجاه انفسهم،وتجاه مهنتهم،وكان الاستاذ راضي العورتاني،الذي تفتحت عيناه على جمال المكان،وبساطة وطيبة وذكاء الناس في حسبان،وبدأ في مدرسة من ثلاثة صفوف،ليكمل دراسته في الزرقاء،ومدرسة الحسين،والاشرفية،ويحصل على شهادة التوجيهي،ليكون اول تعيين له في وزارة الداخلية،وبعد اشهر ينتقل الى وزارة التربية والتعليم،ليعود الى مدرسة حسبان،التي تسجل بالفخر اسمه،من خلال الاسماء التي تخرجت منها،متفوقة ومبدعة في كل المجالات وباعداد كبيرة.
فيلم ،مذكرات معلم،للمخرج هاشم مشاعلة،الذي يوثق مسيرة حافلة بالعطاء،لاحد رموز الحركة التعليمية في الاردن،الذي يمزج فيه الوثائقي بالدرامي،ويسجل ذاكرة الناس والمكان،باسلوب سلس،وايقاع متوازن،وبالطبع يقدم رسالة اقل ما يمكن القول فيها،انها رسالة لها علاقة بالمسافة الهائلة،بين ما كنا عليه،وما اصبحنا فيه،من تراجع في التعليم،وخلل مريع في المنظومة التعليمية باكملها.
الفيلم بمقدار ما فيه نوع من الوفاء،على اعتبار ان المخرج هو احد تلاميذ المعلم المحتفى به،فانه يحمل دلالات كثيرة،كلها تصب في اهمية التعليم،وفي الوعي تجاه الاساليب،والمدخلات التي تعتمد عليها المخرجات،فهذه الاعداد الكبيرة من الاسماء التي تحدثت في الفيلم،وبمواقعها المختلفة،والمشتركة جميعا في النجاح بحياتها العملية،هي نتاج تلك المدرسة التي ادارها الاستاذ راضي العورتاني،في ظل ظروف لم تكن سهلة،او مريحه،لكن كان هناك ايمان وقناعة،بان الخروج من واقع الحال،الى مستقبل افضل،لن يكون الا بالتعلم والادب،وقد جاءت كلمات العورتاني في الفيلم الى الطلاب الذين مازالوا على مقاعد الدراسة،عندما زار مدرسته التي تولى ادارتها سنين طوال،كانت كلمات عفوية وصادقة،ومحملة بخبرة السنين،عندما اوصاهم بالجد والاجتهاد،وان يكون التعليم هو اولويتهم،ليفتح لهم باب المستقبل.
الفيلم من خلال الشهادات التي يقدمها طلاب مدرسة حسبان،والموزعون على مواقع وظيفية مختلفة ومميزة في المملكة،لم تقتصر شهاداتهم على المديح والثناء،انما كانت ابعد من ذلك وتعدت الى العملية التعليمية،وفلسفتها وغاياتها وادواتها،في فترة دراستهم،فالعملية التعليمية،هي تربوية ايضا،وهذا يحتاج الى تكامل عدة عناصر لانجاح قطاع التعليم.
فاذا كانت الوزارة،والقائمين على العملية التعليمية سابقا،قد وضعوا المناهج،والاسس،والمتابعات،وتاهيل المعلمين ليكونوا بحجم المهة التي يتصدون لها،مع الحرص على هيبة المعلم،وسمعته،والتركيز على النشاطات اللامنهجية،الى جانب المنهاج الاساسي الذي كان حافلا بالمعلومات،وفيه البعد الوطني،والعروبي،مع التركيز على المواد الرئيسية التي تؤهل الطالب لاختيار تخصصه المستقبلي.
وبالمقابل فان المعلم كان يدرك اهمية وخطورة مسؤوليته،لذلك كان يتكرر في الفيلم مفهوم الابوة والرحمة،والحرص على الطلاب الى جانب الحزم،وعدم التهاون تجاه التقصير في التعليم،او التمادي في السلوك.ويحكي الاستاذ راضي العورتاني،عن تلك الروح التي كان يتمتع بها المعلم،من اخلاص للعملية التعليمية،حيث ان كل معلم جاهز ومن دون تردد،وبكفاءة عالية،ان يسد النقص في حال غياب زميل له.
ويبقى الضلع الثالث المتمثل بالاهالي والمجتمع المحلي،والمقارنه فجائعية بين ما كان،وماهو سائد اليوم،فالاهالي كانوا يعتبرون انفسهم شركاء في عملية تعليمية اوكلوا امورها الى المدرسة،وبرغم صعوبة الحياة،وقلة المتاح،الا انه كان يتم تعويض ذلك بمنظومة من القيم التي ساعدت المدرسة،ويركز الاستاذ راضي على هذه المسالة،حيث الاحترام والثقة مع كل مكونات المجتمع المحلي،الامر الذي اعطى للمعلم مكانة اكبر في نفوس الطلاب،وبالتالي التاثير فيهم بالمزيد من الجدية،فكانت النتيجة ان اول فوج من مدرسة حسبان،ينجح كاملا،ولاحقا هم في مراتب علمية ووظيفية عالية.
في احتفالية عرض فيلم مذكرات معلم،احتفل الطلاب بمعلمهم،وحضر بعض زملائه،في احتفال بقصر الثقافة،حضره امين عام وزارة التربية والتعليم،حسين الشرعة،مندوبا عن الوزير،والزميل رمضان الرواشدة،وتم التكريم،وتوزيع الدروع،وكنا نتمنى حضور الوزير الجريء،لان الفيلم بما يحمله من مقارنات ومفارقات،يساعده على اجراء جراحات للجسم التعليمي الذي ترهل،وتراجعت سمعته تحت وطأة الاهمال،والتحالفات،وسرقة امتحانات التوجيهي،ومشاكل الطلبة والمعلمين،وتدخل النقابة لحساب مرجعيات ملتبسة.ولعل من المفارقات ان الاستاذ راضي العورتاني،بكل هذا التاريخ،يتقاضى راتب تقاعدي بحدود 350 دينارا فقط.
فيلم،مذكرات معلم،له قيمة عالية من حيث المضمون،وفنيا،استكمل شروط الفيلم الوثائقي،من حيث الشخصيات،والبيئة والمكان،واهمية الرسالة التي يبثها،كل ذلك بايقاع محسوب،وبادوات امسك بها بدقة،المخرج هاشم مشاعلة.
العرب اليوم