إلى مدرستي التي أحببت .. مدرستي التي رعت طفولتي مدرسة التطبيقات النموذجية
الكاتب : فيصل تايه
بالأمس البعيد رُسمت أولى الخطوات على طريق مستقبلنا .. يوم أن فتحت أبواب مدرستنا لتحتضننا .. وكل منا وضع قدمه ليمضي وفي ذهنه أحلام شتى... وعندما تنثال بعض الذكريات في خاطري أتذكر حلمنا في أن نبني في رحابها أنفسنا... كنا نغرس في دروبنا كل قيمة ومبدأ سنتعلمه فيها لتُشرق الأرض.. وتنتشي الدنيا بالخير الذي سيعمُ رُباها على أيدينا بإذن الله.. كنا نحلم.. ونحلم.. نعم فللمكان ذاكرة كما يقولون ..
جلست مع نفسي .. و أنا أقترب من خريف العمر وما زال شريط ذكرياتي يمر وكأنه الأمس القريب .. ولكني أصر بعفوية لحوحة أن أقف عند ذكرى طيبة لم تستطع السنوات الطوال أن تمحوها من مخيلتي و وجداني ما تعلمته في مدرستي التي أحببت والتي شكلت المعالم الأولى من كياني .. لا زلت أذكرها تماما فكانت صرحا تربويا مميزا من صروح عمان ببنائها .. والعظيمة بمعلميها وتعليمها .. فأنا لا أزال أذكر كل حرف قرأته وكل كلمة تعلمتها فيها .. كأن كل شيء كان البارحة... صفوف المدرسة... السبورة... المقاعد... وجوه الطلاب.. ذلك الحرص القوي والدافع العظيم لبلوغ الهدف... لا زلت أذكر تماما ملامح كل معلم .. ونبرة صوته بجديتها وبقسوتها ..
ألحت علىّ نفسي في الكتابه إليها .. فها أنا آتيك متعباً من خلف أسوار الطريق الطويل القاسي.. من بين أشواك الحياة .. إني ارتقيت بسلم المجد الذي تعلمته منك .. فاسقيتني معالياً وشموخ وديمومة .. علمتني ..كيف الحروف تخط من قلبي لغة عشق ابدي .. هل تذكريني..؟ أنا من أهداك عمراً طويل...! وأهديته قلباً ينبض إيماناً وشموخ وعزة أهديتني حفظ الكتاب ويكفيني فخراً بذلك .. اشتقت لمقاعد الصف وكلمات الإذاعة في كل صباح.. وجوقة المدرسة الموسيقية وهي تعزف السلام الملكي .. ونشيد العلا بقيادة من علمني العزف على أوتار الوطن في سيمفونية رائعة أستاذي الفاضل إسماعيل قدري .. لندخل غرف الصف نردد كلمات في حب الوطن .. اذكر تماما من علمني أن أخط أول الحروف .. معلمي وسيدي الأستاذ محمد سلامة .. لا زلت أذكر لمحات مديري الذي كانت صفته الوظيفية بمرتبة وزير ..
آه يا مدرستي .. أذكرك تماماً.. أذكر حقيبتي.. ومحفظتي.. وقلمي.. وكراستي.. غرفة صفنا الجميلة وساحات أرضك وسماك.. فأنت من علمتني أن لا أخشى الأمل لأن الربيع آت رغم حلول الخريف.. ومثلما تأتي الليالي السود تأتينا الشموس.. علمتني فأحسنت التعليم.. وتابعت السيرة لأخدم في موقع من خدمونا .. إياك أن تتراجعي..واصلي على نهجك..وازرعي في أرضك سنابل الخير لتحصدها لنا أجيالك.. ولتكوني في تعاليمك درساً لهم..
.. لقد كانت مدرسة التطبيقات النموذجية ابرز معلم تربوي في عمان .. كنت أحس بمرحها وعذوبتها.. كنا نعشق الذهاب اليها .. ونبكي عند فراقها .. كنا لا نحب العطلة الصيفية التي كانت تبعدنا مؤقتاً عنها .. عشقنا المناسبات الوطنية لأننا كنا نجسدها بكل حب وصدق .. وكيف كان معلمنا في كل مناسبة وطنية يحدثنا بمهابة عن الوطن... كان المعلم يبدو لي وهو يتحدث عن الوطن كأنه يتحدث عن حبيبة ضفرت جدائلها بضوء الفجر منتظرة سطوع الشمس من خلف جبال سحرية. ثمة مهابة في حديثه عن التراب... الماء... الناس... والهواء... وسنابل القمح .. حتى عصافير الدوري وهي تتقافز على الجدران والمزاريب وأشجار الصفصاف والزيتون التي كانت تظلل الطريق إلى المدرسة كانت جزءاً من هذه المهابة التي يتحدث بها. أذكر.. يوم قال المعلم لطلاب صفنا لنجرب الكتابة عن الوطن. بقيت يومين أفكر كيف لي أن أجسد صورة الوطن.. في النهاية كتبت.. تخيلت الوطن امرأة حبلى.. تحمل غمراً من القمح في درب وعر تحت وهج الشمس .. وعندما تعبت جلست على حافة ساقية ماء ومدت قدميها اللتين حفّر شقاء الزمن وخشونة الطريق.. ورؤوس الشوك فيهما خطوطه.. بعد أن قرأت ما كتبته سألني معلمي : ( أهكذا تتخيل الوطنّ ). لم تكن لدي إجابة .. ابتسم .. ظننت أنه يسخر من صمتي وارتباكي .. احتضنني بحنان الأب وقال : ( الوطن ولود بالعطاء والعمل والأمل). منذ ذلك الوقت وأنا أنظر إلى المدرسة مصنع ( الانتماء للوطن ) .. وكلما نجحت المدرسة في مهمتها كلما كان مستقبل الوطن أكثر إشراقاً !؟
دعوني أسأل: (هل ما زال المعلم هو المعلم؟!... والمدرسة هي المدرسة؟!.. والطالب هو الطالب ؟!.... والأهل هم الأهل؟!... والسلطة التربوية هي السلطة التربوية ؟!... المجتمع هو المجتمع ؟! وهل بتنا نمتلك مدرسة أكثر حرصاً وتعليماً من مدرسة أيام زمان .. ومجتمعاً أكثر قوة اقتصادية .. ولدينا أناس أكثر سعة في المال والجاه .. ومعلم أكثر أناقة في المأكل والملبس والمتلفظ وطالبا ً له ما يحتاجه .. فهل نجحت المدرسة؟!
إننا نفتقر في كل ذلك إلى المضمون الذي كان .. لا زلت أذكر المربين الأفاضل الذين أعطوا الكثير فلولاهم لم يكن لدينا ثقافة الانتماء للوطن .. وثقافة الحب .. وثقافة العطاء .. حيث كان للمجتمع الذي كنا نعيش فيه ثقافة الانتماء والأمل والحياة .. فأين نحن من ذلك .. ألا ترون أن ذكرياتنا باتت تقتصر على الكتابة.. حتى كتابات الذين رحلوا .. راحت تختفي .. وما بقي منها راح يأخذ وضعاً منسياً أبطاله قراء يفتقرون للتطلع نحو التثقف .. والحرص على بناء الذات نحو مستقبل واعد ينسج في مخيلته حبا وعشقا أبديا لأردننا الخصيب .. وهذه حقيقة..
فعلا تذكرت نغمات الوطن التي كانت تسكنني حين أردد :
على ذرى أردننا الخصيب........الأخضر العابق بالطيوب....
الساحر الشروق والغروب....سمعتها تقول يا حبيبي.....
فأرجوكم اتبعوا هذا الرابط : http://www.youtube.com/watch?v=2m9s2hbpeBM
مع تحياتي
الكاتب : فيصل تايه
البريد الالكتروني : Fsltyh@yahoo.com
الموقع الخاص بالكاتب : http://sites.google.com/site/faisaltayeh/home