سنبقى متشبثين بأغصان التين وأوراق الزيتون، وسنبقى مستظلين بأشجار البلوط والملول. وسنبقى نحرث أرضا حرثها الآباء والأجداد من قبلنا، نتمرغ في ترابها، و(نكربط) في حشائشها. وسنزرع أقداما وهنت وما لانت في بيارات وقاص وغور الصافي. وسنمسح عرق جباهنا في أفياء عجلون والشوبك، ونشتم عطر ثرى المفرق والموجب. ولن يغادر فؤاد لنا جنبات الكورة لا..ولابني كنانة. وسنبقى على هذه الأرض مادامت تطرح دحنونا وزعتر.
منذ أواخر الثمانينيات ونحن نربط على بطوننا ونشد الأحزمة لأن الوطن الأجمل يمر في ضائقة مالية؛ معتقدين واهمين أن هذا قد يساعد في تجاوز المحنة. ومرت السنون ونحن نستبدل حزاما بآخر أسوأ منه وأرذل، وتحسسنا البطون فلم نعثر إلا على بقايا جلود تجعدت وتثلمت.وابتلينا بالخبراء الاقتصاديين والماليين الذين انقضوا على المواطن وشقاء عمره فأمطروه مطر سوء أسموها ضرائب؛كأحد إجراءات التصحيح الاقتصادي. وكنا في بداية الأمر من المصدقين لا من المكذبين في أن نتيجة ذلك خير للوطن والمواطن. وتقاطر غريبو الوجه واليد واللسان من كل حدب وصوب رافعين لواء الخصخصة، بإسناد من المؤسسات المالية والنقدية الدولية، فباعوا وباعوا وباعوا، ومن ثم اشتروا تذكرة طيران إلى بلادهم التي جاؤوا منها. ولم نحصد من الانفتاح والعولمة والخصخصة إلا رؤية الفنادق الفخمة في العقبة، والبحر الميت، وعاصمة مهجتنا عمان، نكحل ناظرينا بالمولات والبوسترات والإعلانات، ولكن سلبت منا الجرأة على ولوج أبوابها.وفي ظل هذه البيئة العفنة ترعرع الفاسدون والمرتشون والمختلسون، فتصلب عودهم وقويت شوكتهم، فكان منهم المشرعون، وصار منهم المنفذون. لذا، ما إن تشرق شمس الصباح حتى تطالع: سرقة في وزارة، اختلاس في دائرة، رشوة في عطاء، فساد إداري ومالي في مؤسسة. والحال تتردى من الأسوأ إلى الأكثر من الأسوأ أسوأ بالنسبة إلى أصحاب الجلود، وأما أصحاب البطون فشعارهم( جمعة مشمشية) أي فترة قصيرة من السلب والنهب فلنستغلها على ما ينبغي، مع التأكد من أن تذكرة الطيران موجودة في شنطة السفر.فهؤلاء ريح صرصر تنتقل من هنا إلى هناك، وهؤلاء هم أبناء السبيل من لاوطن لهم، وكما قالت عصفورتا الحجاز لريح هبت من اليمن: ياريح أنت ابن السبيل ما عرفت ما الوطن.
ولا يخفى على عاقل عواقب هذا على المجتمع؛ أطفال يلهثون وراء السيارات على الإشارات الضوئية. شباب يثبون في حاويات يفرغونها من محتوياتها. أسرة تؤجر رضيعها للمتسولات. جريمة قتل هنا، حادثة انتحار هناك، اغتصاب بين هنا وهناك.قتلى وجرحى بين عشيرتين، جرحى وقتلى بين حمولتين،إصابات بالغة في مشاجرة جماعية ولكن من الصنف الأكاديمي في جامعة كذا، أب يقتل ابنه،أبن يقضي على أبيه،و.......أحداث يندى الجبين لمجرد ذكرها. ومصيبة المصائب أن هذا يحدث في أردن كنا نباهي به الأمم في أمنه وأمانه، وللحق والأمانة نقول إن هذا ليس تقصيرا من الجهات الأمنية التي مازالت الحصن الطاهر، ولكن هناك تحول ديني و أخلاقي وقيمي خطير يعصف بالمجتمع، قد يكون سببه أسبابا عديدة من فقر وإحباط، واتساع في الفجوات بين دير غبار وغبار صبحة وصبحية، وقد وقد الكثير الكثير.
ومع كل ذلك.... سنبقى
سنبقى ما دام ولينا أبا الحسين، وسنبقى مادامت الكوفية رداءنا، والعلم الأردني سحابتنا، وسنبقى مادامت مؤسساتنا الأمنية عصية على الفساد والمفسدين. قد نكفر بحكومة ولت وأخرى هلت، وقد نكون من اليائسين من إجراءات مسؤول هنا أو هناك. ولكننا لا ولم ولن نكفر بالوطن وسنبقى فيه؛ فهذه النعمة التي اسمها الأردن لايعرفها إلا من يفتقدها.
لذا، فإننا سنبقى