من يقول أنّ جحا (هبيله)؛ فليتفقّد جوانبه أو كما يُقال بالعاميّة: فليتفقّد (إردانه)...!
لقد حيّرنا جحا سنون وسنون، وحيّر معنا الباحثين والقصاصين، (وعَ بلاطة ومن الآخر..)؛ دعني أسألك: مادام جحا (هبيله) كما يدّعي جميعنا؛ فلما احتارت في شخصة كلّ كتب التاريخ؟ فلغاية اللحظة لم يثبت أحد أنّه شخص واحد أو أكثر، فتجد بعض نوادره قد حدثت في عصور عدة ومتتالية من صدر الإسلام و (امشي) لغاية أواخر الدّولة العباسيّة وبعدها، والأغرب أنّها تُروى لتصلنا من مناطق عدّة بعيدة عن بعضها ومختلفة، فمرّة من بغداد والحجاز، ومرة من فارس و آسيا الشرقيّة، وأخرى من الشّام وحلب وغيرها !
آه شو قلت؟ ألا يثبت لك ذلك بأنّ جحا (ملعون حِرسِي) و ليس شخصاً واحداً بل عدة أشخاص وأُطلِق عليها اسم واحد هو (جحا)؟ ومن عندي ومن عند (فريد الأطرش)؛ جحا (صاحي) وإلّا فكيف أصبح بطلاً لا بل رمزاً وله مقلّدون يقلدون مدرسته الهزلية وأتباع يتّبعون أسلوبه السّاخر...!
يا ناس...! (السّالفة وما بيها)؛ جحا كان (عايف الدّنيا بقشرة بصل) من شدّة ما يمرّ به من ظلمٍ واستبداد، لدرجة أنّه كان نموذجاً للإنسان المقهور، ولم يجد ما يواجه به عهر وقهر زمانه إلّا الطرفة والإستخفاف والسّخرية والهزل، وهذا يعني أنّه قد كان (مِعْطيها) عن قصد وسبق إصرار ولا يُلام! فمن منّا الآن من ليس به (جحا)، أو فيه صفة من صفاته وسماته؟
إذن...، لو كان (الله يسلّمه هبيله) كما نقول؛ لما زلنا نحبه ونضحك معه ونستمتع بــ (نكاته) وطُرَفه، ونعيش معه ويعيش معنا منذ آلاف السّنين؟ كيف يحدث هذا منّا كلّه نحوه ونحن نستغفله ونستجدبه؟ أي وحّدوا الله عاد يا ناس...! (أنا اللي شايفه؛ إنه هوّ اللي يستغفلنا مش إحْنا) و (إحنا الجدبان مش هوّ)! نعم هو من يستغفلنا ويستجدبنا كل هذا الوقت بقوة ذكائه وسعة مكره وسرعة بديهته، ونفاذ حيلته... .
يا ناس! يا عالم! إذا جحا (أجدب وهبيله)؛ مين فينا الصّاحي لعاد؟ لا حول ولا قوّة إلّا بالله يا ربّي...! ياريتنا كلّنا الآن مثل جحا (اللي قبل)! طيّب...أقوللكوا...تعالو ياخوي معي و (امسكوا بِيدَيكوا وشوفوا بْعيونكوا):
تنازع شخصان وذهبا إلى جحا إذ كان قاضيا، فقال المُدَّعِي: لقد كان هذا الرجل يحمل حملاً ثقيلاً، فوقع على الأرض، فطلب مني أن أعاونه، فسألته عن الأجر الذي يدفعه لي بدل مساعدتي له، فقال: ( لا شيء)، فرضيت بها وحملت حمله، وهاأنذا أريد أن يدفع لي (اللا شيء)، فقال جحا: دعواك صحيحه يا بني، اقترب مني وارفع هذا الكتاب، ولما رفعه؛ قال له جحا: ماذا وجدت تحته؟ قال: (لا شيء)، فقال جحا: خذها وأنصرف....!
وكان جحا يوماً في الطابق العلوي من منزله، فطرق بابه أحد الأشخاص، فأطل من الشباك فرأى رجلا فقال: ماذا تريد؟ قال: انزل إلى تحت لأكلمك، فنزل جحا...، فقال الرجل: أنا فقير الحال وأريد حسنة يا سيّدي...، فاغتاظ جحا منه ولكنه كتم غيظه، وقال له : اتبعني...، وصعد جحا إلى أعلى البيت والرجل يتـبعه، فلما وصلا الى الطابق العلوي التفت جحا إلى السائل وقال له: الله يعطيك ...، فاجابه الفقير: ولماذا لم تقل لي ذلك ونحن تحت؟ فقال جحا: وأنت لماذا أنزلتني ولم تقل لي وأنا فوق؟
ودفع أحدهم كتاباً إلى جحا ليقرأءه ...، فعسرت عليه قراءته ولم يعرف ما فيه، وأراد جحا أن يتخلص من المأزق، فسأل الرجل: من أين جاءك هذا الكتاب؟ فقال الرجل: من مدينة حلب...، فقال جحا: صدقت..ومن قال لك أنّي أعرف القراءة بالحلبي؟
وسئل جحا يوماً فقيل له: مابرجك ؟ فقال: برجي التيّس...، فقالوا له: ولكن لايوجد بين الأبراج برج يُسمّى بهذا الإسم...، فقال لهم: نعم صدقتم، ولكنني عندما كنت صغيراً قالوا لي: إنّ برجك الجدي ولكن لما كبر هذا الجدي أصبح تيساً... !
آه...، والآن بعد هذه العجالة؛ هل عرفت (جحا) على حقيقته؟ أرجو ذلك، وأرجو أنّك قد عرفت أنّه قد كان مُفكّراً وعالماً وفقيهاً وقاضياً وصاحب طرفة، وبجمعه هذه الصفات جميعها؛ انتقم منه كلّ الذين اكتشفوا بأنه قد ضحك عليهم واستهبلهم لعصور وبخاصة المؤلّفين؛ فقدّموه لنا في كتبهم على أنّه (واحد أجدب وهبيله)...!
أمّا جحا (الغبي) الذي يعيش بيننا الآن وفي كلّ واحدٍ منّا، فهو الذي سُرِق وطنه، فقيل له: أسُرِق وطنك يا (جحا)؟ قال: نعم وأحْمُد وأشكر! فقيل له: وعلى ماذا تحمد وتشكر؟ قال: على نعمة الأمن والأمان...!