بلال حسن التل
النجاح الكبير الذي حالف الندوة التكريمية ، للعلَامة الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد ، الذي تشرفنا في مركز دراسات الوحدة الإسلامية ، بتنظيمها بالتعاون مع جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ، يؤشر إلى أكثر من نقطة إيجابية ، أولها: إن العمل الجاد المخلص ، لا بد من أن يؤتي أكله بإذن الله. فما على المرء الا ان يأخذ بالأسباب امتثالا للتوجيه النبوي ((إعقل وتوكل)) ويترك ما تبقى على الله. وثانيها: إن الناس يُقبلون على العمل الجاد ، ويتفاعلون معه ويؤيدونه ، وليس صحيحا انهم منشغلون بالتوافه وبالسطحي من الأنشطة ، المحسوبة على الثقافة والإبداع. بدليل أن القاعة التي عقدت فيها الندوة التكريمية للعلَامة الأسد شهدت وعلى مدار ساعات عملها ، التي توزعت على يومين حضورا شبابيا من الجنسين ، وكان الحضور من الشباب يتابع أوراق العمل الجادة ، ويناقش أثناء الجلسات وبعدها مضامين هذه الأوراق ، دليلا على أن الخير ما زال في شباب هذه الأمة. وأن مسؤولية أجهزة التنشئة والتوجيه هي ان تقدم لهم المادة النافعة لفكرهم وروحهم. وهذه واحدة من الأهداف التي رمينا إليها من الندوة ، ومن دعوتنا لقطاع الشباب إلى حضورها.
صحيح ان الهدف الأول من إقامتنا للندوة هو تكريم قامة عاليه ومتميزة ، هي قامة العلَامة الدكتور ناصر الدين الأسد ، الذي لو كان في بلد غير بلدنا لما ترددت جهات الاختصاص في ذلك البلد عن السعي من أجل إيصاله إلى جوائز عالمية. فبعض الذين حازوا على نوبل وغير نوبل من الجوائز لا يزيدون عن الأسد بشيء. بل لعله يتفوق عليهم بما قدم من فكر وثقافة وعملٍ. لكن ماذا نفعل وقد ابتلينا ببلدنا بفئة من أعداء النجاح ، الذين صار في بلدنا في ظل سطوتهم على بعض مفاتيح الأمر ، تهمه لا بد لصاحبها من ان يدافع عن نفسه؟
قليلة هي البلدان التي صار فيها النجاح تهمه ، ومنها للأسف الشديد بلدنا. وبسبب هذه الآفة خسرنا الكثير من المبدعين في ميادين شتى. وانتهى الكثيرون من مبدعينا نهاية يصح ان نسميها (بالمأساوية). ولم يعد سراً ان كثيرين من مبدعينا في بلدنا انتهى بهم الحال ، إلى العزلة والاعتزال. وقائمة المبدعين الذين لم يأخذوا حظهم من التكريم في بلدنا طويلة: من عبد الحليم عباس إلى أمين شنار إلى مناور عويس إلى رشيد زيد الكيلاني إلى حسني فريز إلى آخر القائمة التي تطول وتطول بأسماء المبدعين الأردنيين الذين لم ينالوا ما يستحقونه من اهتمام وتكريم. وهو أمر يفرض علينا ان نعيد النظر في موقفنا من الإبداع والمبدعين ، لكي نسعى إلى تصحيح أخطائنا بحقهم ، فنعيد قراءة من قضى منهم ، ونكرم من ما زال على قيد الحياة حتى الآن فتكريم الأحياء يحفزهم إلى المزيد من العطاء ، ويحفز غيرهم إلى سلوك طريق العطاء والإبداع ، ويجعل من هؤلاء المبدعين من أهل الفكر والثقافة قدوة للأجيال. وبهذا نصلح خطأ يرتكب بحق أمتنا وأجيالها الجديدة ، في زمن الهبوط والانحطاط الذي نعيشه. حيث كثرت الظواهر الصوتية الفارغة وحيث صارت الراقصات والطبَالون وغيرهم من أهل البذاءة التي تسمى فنا يتصدرون الواجهة ، بفعل التركيز الإعلامي عليهم. إلى درجة صار معها أطفال الأمة يعرفون أدق تفاصيل غراميات هذه المطربة ، وأسماء عشاق تلك الممثلة ، وأصناف طعام وشراب ذلك الطبال ، أو تلك الراقصة. في إطار خطة مدروسة لقلب القيم والمفاهيم ، لدى أبناء الأمة. وهو خطأ صار من الضروري إصلاحه من خلال أداء واجب التكريم للعلماء ، وتقديمهم على أنهم النموذج والقدوة الحقيقية لأبناء الأمة.
سبب آخر يدعونا إلى تكريم العلماء والمفكرين ورموز الثقافة: هو أننا نريد ان نقدم للأجيال الراهنة ولأجيال المستقبل تاريخنا ، على أنه تاريخ علم وإبداع وتفكير ورفعةٍ ورقي. لا تاريخ هبوط وإسفاف ورخص. وهذه مواصفات عصور الانحطاط والتدهور في تاريخ الأمم الذي يجب ان تخرج أمتنا منه.
وحتى يتحقق ذلك كله ، وحتى تعود الأمور إلى نصابها ، فإن المطلوب أولا: أن نعيد النظر في قائمة الذين يستحقون التكريم والمجالات التي يستحق البارزون فيها ان يكرموا ، فليس من المعقول أن يتساوى هزَ البطون مع قدح العقول. كما ان المطلوب إعادة النظر في أسس وقواعد التكريم المتبعة لدينا ، خاصة على صعيد منح الجوائز مهما كان مسمى هذه الجوائز وقيمتها. فالأصل ان تحكمها الموضوعية والتجرد وان نحررها من المزاجية والهوى ، ومن الغيرة والحسد ، ومن الأنا ومن كراهية بعضنا لنجاح بعضنا الاخر.
ان علينا ان نعترف بأن التكريم هو جزء من كتابة تاريخ الوطن تتم عبر تكريم رجاله ، وتكريم الرجال يحتاج إلى رجال فلا يعرف قيمة الرجال إلا الرجال.