بقلم: د. آية عبد الله الأسمر
أحب أثناء قيادتي السيارة أن أقلّب قنوات الراديو ما بين نشرات الأخبار الموجزة والبرامج الثقافية الترفيهية والمنوعات الغنائية، وفي كل مرة تستوقفني بصورة لافتة أغنية \"بالروح بالدم راح تبقى يا غالي\" للمطربة اللبنانية \"نجوى كرم\"، جميعنا قد تلفت انتباهنا أمورا عدة في أية أغنية كصوت الفنان إما العذب الصادق أو النشاز الرديء، أو كلمات الأغنية الرنانة المعبرة أو الركيكة السخيفة، وقد تكون الألحان سواء الشجية أو المزعجة، وأحيانا أخرى تستثير فينا الأغاني ذكريات وأشجان وخواطر كلحظات الغروب التي قالت فيها الشاعرة: \"كم للغروب بنفس كل مشاهد من ذكريات تلهب الوجدانا،،، كل يراه ويرى به أصداء عمر قد مضى وزمانا.
إلا أن أغنية \"بالروح بالدم\" تختلف عن أية أغنية أخرى على الأقل بالنسبة لي أنا، ففي كل مرة أسمع فيها الكوبليه الأول للأغنية والذي تردده المطربة بحماس وقوة وعنفوان وهي تغني: \"بالروح بالدم راح تبقى يا غالي... بالروح بالدم شو ما صار بحالي\"، أتساقط أنا كأوراق خريف عليل على أنقاض الهزائم المتلاحقة التي يرزح الوطن العربي تحت كلاكلها منذ ال48 وأنا أتذكر كيف كان الشعب الفلسطيني يهدر غاضبا في قلب الانتفاضة التي اندلعت عام 1987 وهو يزمجر: \"بالروح بالدم نفديك يا فلسطين\"، ولا تستطيع ذاكرتي أن تمحو من دفاترها يوم 16/4/1988 عندما اغتال الموساد الإسرائيلي بمنتهى الشراسة والهمجية وعلى مرأى ومسمع من العالم الديمقراطي العادل الحر أحد أكبر وأهم وأشرف القيادات الفلسطينية على الإطلاق \"خليل الوزير\" (أبوجهاد) مخترقا بذلك كل القوانين الدولية والبروتوكولات السياسية والحدود الجغرافية والاعتبارات الإنسانية والقيم الأخلاقية، أذكر حينها هتافات الشعب العربي الدافق من بطن الوجع المحترق بغصته وفجيعته وذهوله وقهره وهو يموج كالبحر الهادر في شوارع العواصم العربية: \"بالروح بالدم نفديك يا أبو جهاد\".
عندما بدأت رائحة الحفريات الصهيونية تحت أسس وقواعد المسجد الأقصى تفوح برائحتها النتنة علانية من فوقه انتفض الشعب الفلسطيني والشعب العربي والشعب المسلم مرة أخرى في فورة غليان غاضب وهو يصرخ: \"بالروح بالدم نفديك يا أقصى\".
وهكذا ارتبطت هتافات \"بالروح بالدم\" في ذاكرتي المكوّمة على رفوف الحلم المذبوح بسكين الحقيقة بالجهاد والمقاومة والوطن، وأصبحت هاتان الكلمتان تمثلان فعل احتجاج ورفض وتضحية، وتعبران عن قيم الوطنية والانتماء والفداء، وما زلت أحتفظ في خزانات الذاكرة المنكوبة بمرض اجترار الذكريات بهتافات الروح والدم التي أطلقناها في الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) وعقب العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة وفي كل مناسبة يجد فيها الشعب العربي نفسه أعزلا إلا من الغضب والانفعال والصراخ.
إلا أن المطربة \"نجوى كرم\" ومؤلفة كلمات الأغنية \"أريج الضو\" اختارتا أن توسعا من معاني هذه الهتافات وأن تمنحاها طابعا عصريا حديثا مستهزئتين ربما بما يزيد عن نصف قرن من الثورات الفاشلة والانقلابات الهزيلة والتكتلات الهشة والتنظيمات العشوائية والخطط غير المدروسة، نصف قرن ونحن نهتف \"بالروح بالدم نفديك يا فلسطين\" و \"نفديك يا قدس\" و \"نفديك يا أقصى\" بالرغم من أنهم قد اغتصبوا فلسطين بوحشية دون أن نفديها فعليا وهوّدوا القدس بجرأة دون أن نفدي مقدساتها وقوضوا أساسات المسجد الأقصى وما زالوا يعملون على هدمه دون أن نحرك ساكنا، مما جعلنا نتوقف عن الهتاف والاحتجاج خجلا من أنفسنا وخزيا أمام التاريخ الذي يدوّن بمرارة وشماتة نفاقنا وكذبنا وخيانتنا.
من الطبيعي إذا وربما من المفيد أيضا أن نحوّل هذه الشعارات الوطنية التي أثبتت فشلها الذريع على الصعيد الوطني إلى أغاني رومانسية تخدم المشاعر العاطفية وتعبر عن الأحاسيس المرهفة لوجدان الأحبة والعشاق، وعليه يجب أن أرضخ إذا لمحاولة الاستمتاع بأغنية نجوى كرم لأنها والحق يقال أغنية جميلة، بالرغم من التداعيات والإسقاطات التي تحملها كلمات الأغنية بالنسبة لي وبالرغم من مرارة الهزيمة التي يمثلها هذا التحول النوعي في استخدام شعاراتنا الوطنية، وبالرغم من عصافير الأحلام وسنابل القمح وملح الأرض ونكهة البيارات التي قصفتها سنوات الهزائم والانكسارات المتلاحقة، وبالرغم من كل العجز والوهن والنفاق الذي غلّف تلك الشعارات والهتافات دون أن تتمكن أرواحنا ودماؤنا من أن تتجاوز حدود آلاف الحناجر التي صدحت بتلك الكلمات في ساعة غضب.