كرمل ابنة السبعة أعوام , دموعها تبللُّ حلمها ,صاحبة خدين ورديين ممتلئين وشعر أسود قصير,اعتادت أن تختبئ في صندوقها الخشبيّ الكبير قبل توبيخ والدتها لها عند قيامها بأمر خاطئ , كانت الأُمُّ تكرهُ ذلك الصندوق فقد كان يُذَكِّرُها بنعشِ زوجها الذي استشهد قبل عامين , كرمل تتقن العزف على الكمان تهرب معه من صوت العيارات النارية التي كانت ترافق ليلها ومنامها , كان الكمان هدية والدها قبل موته وقد حفَرَ عليه بيده عبارة
(بتلاقي حريتك بالموسيقى يا بنتي) .
اعتادت كرمل وأختها الكُبرى أن تجلسان قربَ نافذة المنزل الصغير الذي يُطِلُّ على حيفا, الأخت الكُبرى تنتظر صبياً في حارتهم اعتادَ أن يلوحَ بيده لها وتَرُدُّ هيَ عليه بنفس الطريقةَ وهذا اتفاق بينهم أن الأمور جميعها تجري بخير وهيَ ليست بحاجةٍ لشيء , كان الصبي يحاول أن يشغلَ دور الفتى الحبيب و الأخ الحريص معاً حتى لا يُشعِرَها بغيابِ والدها عنهم, أمّا كرمل فكانت تنتظر عودة أبيها المسافر إلى حيث لا تدري .
جاء الصباحُ كعادته حاملاً أسراره وانتظاره وخفاياه ,اجتمعت العائلة البسيطة حول المائدة المستديرة وراحت كرمل تستعجل الإفطار حتى تبدأ رحلتها اليومية في العزفِ ثم العزف , وعندما يجيءُ الليل تنسحب الأوتار ويغمر صوت الرصاص حلم الصغار, يوصد باب البيت ويبدأ حلم المستيقظين ويبدأ ذلك الخوف الأزليّ , خوف كرمل من صوت الأقدام تقتربُ من غرفتها وشفاهها ترتطم ببعضها كأنَّ البرد يسكُنُ عظامها الرقيقة في كل الفصول .
تتمنى كرمل لو انها وتر في كمانها او دمية في غرفتها أو نجمة في سمائها او لا تكون, يقترب الصوت أكثر تسير بسرعةٍ صوبَ النافذة تنظرُ إلى الشارعِ المظلم المؤدي إلى بيتهم وترى كائنات غريبة. ترتدي قبعات غريبة لا تعرف ما تسميهم , فقط تقول لأمها في اليوم التالي كائنات غريبة يا أُمي لا تظهر إلا في الليل..أنا أُشاهدهم كل يوم صدِّقيني , تحاول الأم أن تجيبَ بأنَّ هؤلاء ليس إلا حُرّاساً يقومون بحمايتنا من الأشرار في الليل وتقول: لا تخافي حبيبتي هم أيضاً يُحبّون الموسيقى مثل والدك لكن آلاتهم الموسيقية التي تُطربهم لا تشبهُ التي تعرفين هي آلات خاصة بهم وحدهم. تطمئن كرمل قليلا لكنها لا تتوقف عن التفكير في تأويل ذلك الصوت الذي يرتبط قدومه بمجيء تلك الكائنات ...وتظلُّ تعزف على الكمان.
وفي يوم جديد ونهار جديد تواصل الطيور غناءها.. تقرر كرمل ان تعرف مصدر ذلك الصوت النشاز بالنسبة لأذنها الموسيقية وفي ذات اليوم بدأت تتمرن على معزوفةٍ تستهلُّ بها صداقتها مع تلك الكائنات كهدية بسيطة لتشكُرَهم على حراستهم للبيت الذي تسكن فيه هي وعائلتها الصغيرة, يطرق الليل باب غرفتها تنتظر ان تنام أُختها الكُبرى حتى تتسلل إلى الخارج وتقدم مفاجأتها... والآن تشقُّ موسيقاها اليتيمة ليلها الخاص في فضاء حارتهم ويبدأ امتحان الطفلة لطفولتها...تقترب السماء الرمادية والكائنات منتشرة في كل أرجاء الحي تحمل كمانها وتقف خلف النافذة تنتظر ...
يدنو احدهم من باب بيتهم , تسير كرمل مسرعة لتفتح الباب ..أين الباب ؟
تعد للثلاثة ..واحد ..اثنان ...ثلاثة ..وتبدأ أناملها الصغيرة بالعزف وضفائرها تداعب قشرة الكمان, يسمعُ الكائن ذلك الصوت وينظر نحو الباب ويرى شخصا يحمل حلمه بيده ...فيطلق النار ...
أين كرمل ؟ مات الحلم وتداخلت الموسيقى واستقرَّ الندى على صدر كرمل المثقوب ...
دُفنت كرمل في صندوقها الخشبي بجانب الكمان المثقوب أيضاً .امتلأت تلك العبارة بالرمل (عبارة والدها) تلاشى ذلك الحلم المستمر وغادرت سحابة النغمات بيت كرمل ...والعصافير الحرة لا تكترث ما زالت تُغَرِّد.....وتنتهي الطفولة العابرة ...
كل ما تقدَّم كان هذا قرار ضابط إسرائيلي في العشرين من عمره أصدر أمراً بإعلان حالة تأّهُب.