الزواج نعمة من الله، ففيه السكينة والاستقرار، ومن خلاله تتعاقب الأجيال، وبتركه تفتح أبواب الانحرافات، وانتشار ظاهرة العنوسة بين الجنسين مع ما يصاحبها من تعقيدات نفسية، وخسائر اجتماعية، فضلاً عن مخالفة الترك لمراد الشارع الكريم.
ولأن الزواج يضبط العلاقة بين الرجل والمرأة في قالب شرعي محدد وواضح، فإن ذلك لا يسير وفق هوى أهل الشهوات متعددي النزوات، فصاروا يزينون الانحراف ويعسرون سبل العفاف وذلك لحقدهم وحسدهم على أصحاب الفضيلة التي حرموا لذتها ونعيمها، واستثمار ايضاً كافة القنوات التي تحت أيديهم من إعلام وتعليم ومنظمات لتصب جلها في ضرورة تأخير سن الزواج، وتعظيم أمور أخرى بصورة مبالغ فيها من تعليم وخروج المرأة للعمل، وكل ذلك على حساب الأدوار الأصلية والشرعية للمرأة في بنائها لبيتها ورعايتها لذريتها.
وليس أهل الشهوات فقط هم السبب الرئيس في تأخير سن الزواج، بل في أحيان كثيرة يكون الآباء هم صنّاع العنوسة في المجتمع، وذلك بتمسكهم بأفكار ومعتقدات بالية في اختيار شريك الحياة الزوجية، وجميعها تسير وفق هوى الناظر لا مراد الشارع.
والزواج المبكر الذي اشتهر به سلف الأمة، وصار علامة من العلامات المميزة للمسلمين حتى وقت قريب، اضمحل كثيراً وصار عملة نادرة في سوق الزواج في مجتمعاتنا الإسلامية، والغريب أن الأضواء جميعها تسلط على العنوسة التي هي أحد انعكاسات ترك الزواج المبكر بحجج تسويفية، حيث تعقد المؤتمرات وتنظم ورش العمل وتجرى الدراسات لبحث تلك الأزمة، ونادراً ما نجد من يشير إلى تشجيع الزواج المبكر كأحد وسائل القضاء على العنوسة؛ بل إنه على نفس المسار نجد أن الزواج المبكر يصنف على أنه من العادات السلبية التي يجب للمجهودات أن تتضافر للقضاء عليها.
فالأمم المتحدة تعتبر الزواج المبكر عنفاً ضد المرأة ينبغي القضاء عليه، وهي تفرق في وثائقها بين زواج الأطفال وبين الزواج المبكر فزواج الأطفال عندها هو ما كان بين 15-19 سنة، بينما الزواج المبكر عندها هو ذلك الزواج الذي يعيق المرأة عن تحصيلها لتعليمها الجامعي، وسعيها للعمل خارج المنزل.
وعلى ضوء ذلك تشدد الأمم المتحدة على حكومات الدول بأن تعمل على توحيد الجهود للقضاء على تلك الظاهرة الحميدة والتي يعتبرونها خبيثة.
وفي سبيل قضاء الأمم المتحدة على الزواج المبكر نجد أن هناك مسارين بارزين تستخدمهما لتحقيق هذا الهدف؛ الأول منها هو سن القوانين التي تكفل رفع سن الزواج كما جاء في المادة 274 من وثيقة مؤتمر بكين 1995 -والذي تعد مقرراته بمثابة دستور لأدعياء حقوق المرأة- والتي نصت على ضرورة سن القوانين المتعلقة بالحد القانوني الأدنى لسن الرشد، والحد الأدنى لسن الزواج وإنفاذ تلك القوانين بصرامة، ورفع الحد الأدنى لسن الزواج عند الاقتضاء" ويلاحظ هنا أن الأمم المتحدة تفرق بين سن الرشد وسن الزواج وهى جزئية لا تمر هكذا في الفقه الإسلامي فهناك فرق فقهي معلوم بين سن الرشد والذي يستحق اليتيم فيه حقه المالي، وبين الزواج الذي لا حرج في إتمامه بعد سن البلوغ.
الطريق الثاني هو استخدام التعليم للحد من الزواج المبكر حيث تنص المادة 275 من وثيقة بكين على "توليد الدعم الاجتماعي من جانب الحكومات والمنظمات غير الحكومية لإنفاذ القوانين المتعلقة بالحد الأدنى لسن الزواج من خلال إتاحة الفرص التعليمية أمام البنات".
كما يشارك بعض الآباء في تأخير سن الزواج للأبناء ووقوعهم فريسة لأزمة العنوسة؛ وحجج الآباء في كثير من الأحيان واهية، فمرد معظمها إلى الكبر في ناحية البنات ليتحقق وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتنة والفساد الكبير، وربما شارك الآباء في صناعة العنوسة من حيث لا يشعرون بالمبالغة في مستلزمات الزواج والمهور وغير ذلك مما يعجز الشباب عن توفيره مما يجعل الهروب من الزواج أسهلا الحلول المطروحة.
وأما عن الشباب فمرد التسويف غالباً ما يكون إلى قلة ذات اليد والعجز عن توفير الحد المقبول "مجتمعيا" للحياة المناسبة وتأسيس بيت والقدرة على الإنفاق على أسرة في وقت يعجز فيه الشباب أحيانا عن الإنفاق على أنفسهم تحت سطوة ظروف مادية صعبة تعيشها معظم المجتمعات المسلمة، مما يجعل من فكرة الزواج المبكر حلماً بعيد المنال لبعض الشباب، وأمنية يصعب تحقيقها لدى الغالبية منهم.
وقد يكون أحياناً المتأخر في سن الزواج هو اللاعب الرئيس في الحالة التي وصل إليها من عنوسة؛ فنادراً ما نجد فتاة تأخر زواجها إلا وقد تقدم لها يوماً ما عريس مناسب تتوافر فيه كافة شروط السنة في الزوج الكفء، أو بعضها مما يقام على مثله حياة أسرية مقبولة، ولكنها ترفض بحجج تسويفية غرورة، تتخفي في " صناعة الذات" من تعليم ووظيفة أو كِبر، وجميعها مبني على الجهل وقصر النظر وضعف الإيمان.
ومن ناحية الشباب نجد أن من يتخوف من تلك الخطوة إنما يضعف لديه اليقين في الرزق، متناسياً أن بالزواج تفتح أبواب الرزق، وبالتماسه يتحقق الغني بإذن الله.
قد يلتبس عند البعض أمر التعليم والزواج، وأن التعليم مقدم على الزواج، وبالتالي فإن الزواج ينبغي أن يأتي بعد الانتهاء من التعليم؛ فهل هذه النظرة صحيحة ؟
التعليم هو أمر مكمل لا يفوت به الزواج الذي فيه المصالح العظيمة والمنافع الكثيرة مع أنه يمكن الجمع بين الأمرين، بأن يحصل الزواج و تواصل الدراسة، أما إذا تعارض الزواج مع الدراسة، فيجب أن يتم تقديم الزواج، لأن تفويته فيه أضرار بالغة بخلاف تفويت التعليم فإنه لا يترتب عليه كبير ضرر
إننا بحاجة ماسة إلى إعادة إحياء سنة الزواج المبكر داخل المجتمع وهذا أمر مجتمعي قبل أن يكون سلطوي، والزمام الأكبر في أيدي الآباء بتيسيرهم سبل الزواج للبنين والبنات متلازمين، وكذلك الأبناء بقبول الأمر والسعي إليه، حتى لا يقعوا في أزمة العنوسة الموحشة.
خــلــيــل فــائــق الــقــروم