صادفتها في احد مولات عمان الكبرى ، كانت زميلة متفوقة في دراستها ، وكانت الأكثر ابداع وحيوية بين الزميلات ، تبادلت معها الحديث ورحت اسأل عن حياتها ،كانت ان تزوجت لعدة شهور وانفصلت ، وتحدثت عن الحياة التي عاشتها بمرارة وهي تضحك وتبتسم ، وكنت استغرب ابتسامتها كلما ذكرت فقرة منها ، قالت لي : كان كالسبع الهائج او ثور وقعت عيناه على خرقة حمراء إن رآني أتزين له كلما حضر لزيارتي ، لا تعجبه الزينة ولا الملابس الجميلة ، كان يفتي بتحريم الماكياج والألوان والعطر داخل المنزل ! أوامره لا تنتهي ، لا تخرجي ولا تجالسي حتى الأقارب والبسي الحجاب وأنت تجالسي خالك الوحيد !! لا تقتربي من الأسواق ولا تتقدمي لأية وظيفة ، كان دخله كافيا لعزلي في المنزل ، احمل شهادة جامعية في مجال التعليم ، متفوقة ومتدربة في مجالات عديدة غير اكاديميه .. ستة عشر شهرا وآنا في فترة الخطوبة والسبب انتظار إعداد المنزل المستأجر وصيانته .
تزوجنا بيمن الله ورعايته ، وعشت بقوانينه الخاصة أربعة شهور ،زنزانة يسكنها بريء ، حرمت من زيارة أهلي وحرموا من زيارتي إلا بحضوره فقط ، أخي الأكبر لم يكن على وفاق معه وحرم من زيارتي لأنه لم يشجعني على الاقتراب منه والموافقة على الخطوبة ، ضاقت بي الدنيا ذرعا ، لم أتمكن من استقبال المهنئين من صديقاتي وأهلي والأقارب ، ولا خروج ولا زيارات ولا زينة ولا حتى منحني حق التسلية بمذياع او محطات تلفزيونية باستثناء المحافظة والمحافظ منها فقط ، أحلامي وطموحاتي أركنتها في زاوية بعيدة من الذاكرة ، لم أكن قد بلغت الرابعة والعشرين بعد ، وخشيت ان يستمر الحبس دون إفراج او عفو ، بدأت أطالبه بساعة \" تشميس \" كل يوم كما يمنح المسجون في زنزانة ، رفض وأغلق الشبابيك المؤدية الى حدائق الشيطان كما يقول ، كنت أخشى أن أهاتف صديقة أو قريب في ساعة يتلوها تحقيق ! لم تكن النقاشات تجدي نفعا ولا الدموع تحرك ساكنا في مشاعره البليدة .
قررت الخروج من المنزل والعودة إلى الأهل وإطلاق سراحي بعفو أصدره انأ وليس هو ، تمردت على السجان وكسرت الطوق وأطلقت العنان لنفسي لأتحرر من سجن أثقل قلبي ونفسي شهور عديدة ، سرت في الشارع الذي لم أراه الا ساعة دخول البيت ليلة الزفاف ، واتجهت بسيارة نقل صوب الأهل ، ودون تلاوة التفاصيل طلب أخي منه باتصال هاتفي الحضور إلى المنزل ، ولما علم بخروجي رفض الحضور لأنني ارتكبت خطيئة الخروج دون إذنه ن وطلب إلي العودة دون نقاش ، رفض أخي الأكبر إكمال الحديث معه ، أمسكت بالتلفون وطلبت إليه ملاقاتي في المحكمة غدا وأبديت رغبتي بالطلاق .
حوارات وجاهات وعطوات استمرت لشهور دون ان اقدم تنازل عن شروطي ، رفض الشروط ورفضت العودة رغم كل ضغوط الناس والأهل ، وبقيت مستمرة على طلبي بالطلاق ، وأخيرا انفصلنا وحصل على كل حقوقه التي أوجبها الشرع له كما جاء في قرار المحكمة الشرعية التي تجاهلت معاناتي وسجني ووحدتي لشهور وشهور !
مضت شهور عديدة وأنا في منزل الأهل ، فكرت في العمل ولم أجد ألفرصه وقوائم الباحثين عن الوظيفة في ديوان الخدمة أطول من شارع منزلنا ، فكرت في إنشاء مشروع صغير يساعدني على تجاوز المحنة كي استطيع مواجهة أعباء الحياة ونسيان أزمتي القاسية ، رحت ابحث عن بيت صغير في منطقتي لتأسيس روضة وحضانة تخدم أهل منطقتي والمناطق المجاورة ، تخيل وهي توجه حديثها لي ان البيت الوحيد المناسب لشروط الحضانة والروضة كان نفس المنزل ( السجن ) الذي عشت به شهور ، كان تصميميي على استئجاره وتحويله من سجن كان يلم جسدي إلى حديقة وروضة وساحة حرية لأطفالي القادمين !! وفعلا ، وقعت عقد الإيجار وأعلنت للناس افتتاح حضانتي ، واستقبلت أكثر من 42 طفلا في الشهر الأول ، وافتتحت صفين دراسيين لأطفال الروضة , وهانا انعم بمركز ووظيفة ودخل جيد .
لم تناقش هذه \" الزميلة \" حرقة دموع الليل وهموم النهار ، ولم تذكر تلك الأهآت التي تنطلق مع أعماق الحزن لتصهر قلبها من جراء ما قاسته ، نفضت الحزن والألم وذكريات الحبس وأوامر السجان عنها ، فالحياة ليست رجل ، وليست ذكرى مؤلمه ، قالت لي بكلماتها الهادئة ان أصابك السم فأنت لا بد ان تمتصه لتنقذ حياتك وهذا ما فعلته انا في تجربتي !!
خاضت الحياة بروح متفائله ، ادركت بوعي ان الحياة لا تتوقف هنا ، سارت وتمردت على قانون القهر الذي يحكم اغلبية نسائنا ان واجهنا نفس التحد ، ادركت بوعي انها ليست خاسرة في تلك الحرب ، قد تكون خسرت معركة لكنها كسبت حربا لأنها ادارتها باحتراف ، ولانها لم تحسب حسابات التهم الموجهة اليها ، ولن تكون خاضعة لقرارات محكمة المجتمع التي غالبا ما تحكم باحكام الاستسلام للواقع والغربة والانطواء والعار وضرورة العودة الى الحبس ..
ادركت ان الطلاق مرحلة انطلاق نحو افاق جديده ، كانت تثق بقدراتها وجمال نفسها وروحها العالقة بالحياه والامل والعطاء ، وادركت ان رسالتها لم تنتهي في تلك المحطة .
تحية الى زميلتي ، وكل زميلة استفاقت وخرجت من عزلة كادت ان تنهي حياتها بحكم قوانين وانظمة وقيم المجتمع التي باتت غير مرغوبة وغير حضارية