الكاتب : فيصل تايه
في برنامجه الإذاعي الحواري الناجح ( رأيك مهم ) الذي يذاع في الإذاعة الأردنية الرسمية أثار الأستاذ جهاد المومني - مقدم البرنامج - موضوعا غاية في الأهمية .. يتعلق بفوضى التعليم الجامعي واحتياجات سوق العمل .. خاصة وأن طلبتنا الأعزاء خريجي الثانوية العامة مقبلون على اختيار تخصصاتهم التعليمية الجامعية في ظل التزاحم في اختيار بعضها .. والتي لا حاجة لنا بها ولا تلبي طموحاتهم نحو مستقبل واعد وآمن يضمن العيش الكريم .. وتمنيت أن ينقل الحوار الإذاعي عبر جميع القنوات الإعلامية المرئية والمسموعة .. لتكون مرجعية للأهل والطلبة لترشدهم إلى ضرورة مراجعه الكثير من المفاهيم الخاطئة التي سادت وتسود مجتمعنا .. والتي تحتاج إلى إعلام إرشادي توعوي موجه يلقي الضوء على احتياجاتنا المستقبلية من الكوادر البشرية العاملة لتتمشى مع سوق العمل ولتجد فرصتها في إيجاد طريق المستقبل .
وللحقيقة أنني ذهلت للأرقام التي طرحت أثناء الحوار مع ضيوف البرنامج والتي كشفت عن أعداد الطلاب الذين ما زالوا على مقاعد الدراسة الجامعية وأعداد الخريجين المتوقع تخرجهم في السنوات القليلة القادمة وعن خياراتهم وتخصصاتهم غير المنسجمة مع حاجاتنا . والذين سينضمون وبكل تأكيد إلى جيوش الخريجين الذين سبق وأن حملوا نفس تخصصاتهم وما زالوا يعانون من سوء اختيارهم .. ليضافوا بذلك إلى صفوف العاطلين عن العمل . مما يعني تفاقم في البطالة الهيكلية المقننة .
ولا شك في أن حاجات و متطلبات سوق العمل تشكل جزءاً أساسياً من حاجات و متطلبات الطالب الذي يحصل على شهادته الجامعية ليكتشف أن رحلته الأصعب قد بدأت بعد تخرّجه.. فهي رحلة الحياة وتأمين لقمة العيش في ظل أسواق عمل تتميز بمنافسة شديدة لا يجد فيها ما يناسبه إلا من أعدته جامعته لفهم احتياجات ومتطلبات وآليات عمل تلك الأسواق.
ولا شك أيضاً أن حاجات و متطلبات سوق العمل تشكل جزءاً أساسياً وحاسماً من متطلبات تنمية مجتمعنا الأردني الذي يسعى باستمرار للتفاعل مع عالم يتغير وتتبدل متطلباته وحاجاته وأدواته وأساليبه وآلياته بسرعة مذهلة.
من هنا وجب علينا أن نعي دور التعليم العالي وإسهاماته في رفد أسواق العمل وفي المجتمع ككل. ليس فقط بإعداد الطالب الإعداد السليم ليكون مواطناً خادماً لوطنه بالشكل الأمثل .. بل ليكون أيضاً منافساً رابحاً في أسواق العمل .. وهذا سيكون أحد أهم مدخلات تنمية المجتمع اقتصاديا وتربوياً واجتماعيا .. بالإضافة إلى تنشيط الآليات النوعية الضرورية لأسواق العمل من أجل تمكينها من تحديث بُناها الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية وغيرها.
إن هذا الواقع يحتم علينا تغيير الأسس التقليدية التي يرتكز عليها التعليم العالي .. فيتطلب من مؤسسات التعليم العالي أن تكون أكثر مرونة وقدرة على الاستجابة للمتغيرات والحاجات المستجدة في أسواق العمل. ويمكن في هذا الصدد الإبقاء على البرامج والمناهج الثابتة .. واستحداث برامج أخرى جديدة ومرنة تلبي متطلبات تطوير مهارات الموارد البشرية وفقاً للظروف الاقتصادية والاجتماعية والمتغيرات في سوق العمل.
وبذلك يجب أن نسعى جاهدين إلى جعل التعليم العالي قادراً على التأثير الجدي في مجتمعنا عبر تمكينه من تطوير ذاته مهنيا .. وتكوين المعرفة بذلك .. وإنتاجها .. ثم نقلها ضمن قنوات مناسبة إلى خلايا المجتمع لكي تصب في خدمة إنساننا ووطننا وأمتنا.
إن إعادة هندسة التعليم العالي وضمان ترابطه العضوي مع سوق العمل هو معيار نجاح أي مشروع يهدف الى إعادة تنظيم التعليم العالي.. فنحن لا نريد لأولادنا أن يتعلموا وينالوا الشهادات الجامعية من أجل الانضمام إلى قوافل العاطلين عن العمل .. كما سبق وتحدثت .. والتي تشكل السبب الرئيسي في تأجج بعض الآفات التي تعاني منها مجتمعاتنا كافة.
ووفق هذه الأفكار لا بد من بحث رؤى تفاعلية ثاقبة .. وذلك بتحمل الجميع لمسؤولياته .. إذ لا بد من إشراك الجميع في التخطيط لمستقبل الأجيال .. ولن نغفل عن ضرورة اعتماد تشاركيه في التخطيط بين القطاعين العام والخاص من أجل وضع الخطط الدراسية المستقبلية التي تؤمن بعداً سسيولوجياً لمجتمعنا .. المدخلات الأساسية التي يحتاجها سوق العمل تكمن في مخرجات التعليم العالي .. ولا بد بالتالي من شراكة حقيقية وراسخة بين هذين القطاعين .. وهذا يتطلب ضرورة وضع أولويات وآليات عمل إجرائية مع زيادة صلة المناهج الأكاديمية بسوق العمل لكي تتماشى هذه المناهج بشكل أفضل مع متطلبات ذلك السوق .. وهنا يجب التنسيق إلى حد كبير فيما بين القطاع المهني والقطاع الخاص والعام وغرف الصناعة والتجارة أيضاً .. للعمل على أن إنتاج منتج مهيأ لتلبية الحاجات والمتطلبات الأساسية لأسواق العمل . مع التركيز على جودة النظام التعليمي والذي يقتضي التركيز ليس فقط على المدخلات بل والمخرجات أيضاً .. فتكون هناك حدود دنيا ومهارات معينة يجب أن يتمتع بها الخريجون .
إن ضرورة بناء الكوادر البشرية بما يتناسب مع متطلبات سوق العمل .. وضرورة ربط التخطيط التعليمي بالتخطيط الاقتصادي في إطار خطة تنمية شاملة .. واستخدام التدريب وإعادة التأهيل بالتعاون مع الأطراف ذات العلاقة وخاصة القطاع الخاص .. ودعم التعليم الجامعي .. وربط التخصصات بالاحتياجات من القوى العاملة على المدى المتوسط والطويل .. وإنشاء قاعدة بيانات مربوطة بشبكة معلومات تستفيد منها الأجهزة المناط بها وضع سياسات الاستخدام وتخطيط القوى العاملة وتخطيط التعليم .. مع استمرار تحديث المناهج والطرق التدريسية لمواكبة التطور السريع في البيئة الداخلية والخارجية .. وإنشاء مراكز تدريب مهني ضمن الجامعة يساهم فيها القطاع الخاص بخبرته العملية وأساتذة الجامعة يتدرب فيها الطلاب الذين على وشك التخرج لينخرطوا مباشرة في سوق العمل .. سيضمن معالجة جذرية للخروج حتما من هذا الكابوس مع اعتماد استمرارية سياسة التوجيه المهني عبر القنوات الإرشادية المعروفة .
فنحن لا نريد ما أن ينهي الطالب دراسته الجامعية ليجد نفسه أمام رحلة طويلة من المشقات .. فالشهادة العلمية التي قضى أربع سنوات أو أكثر من عمره للحصول عليها ستجعله يصدم بواقع مغاير لآماله وطموحاته .. وان أي انخرط له في سوق العمل سيواجه بصعوبات كبيرة .. وسيدرك أن دراسته الأكاديمية ينقصها الكثير من المهارات والخبرات التي يتطلبها الدخول إلى الحياة العملية ..والتي يحتاجها سوق العمل .... فهذه المفارقات جعلت العديد من الخريجين يعملون خارج إطار اختصاصاتهم ولا يحصلون على فرصة لاختبار إمكانياتهم أو الاستفادة من سنوات دراستهم أو المعلومات التي تلقوها خلال الدراسة .. فلم يعد من الغريب أن نكتشف أن عاملاً في أحد المهن الصناعية يحدثك بعبارات متزنة ومنطق واضح هو خريج جامعي وحاصل على اختصاص علمي مرموق .
انه لمن الضروري بحث هذا الموضوع بكل همة ومسؤولية .. ومتابعة كافة الاقتراحات لذوي العلاقة لعل أبرزها العمل على التوسع في إنشاء الكليات التطبيقية وضرورة ربط التخطيط التعليمي بالتخطيط الاقتصادي في إطار خطة التنمية لتفادي تخريج قوى عاملة غير مرغوب فيها .. وبذلك نرقى إلى الحاجات والضرورات الملحة.
و كذلك لا بد من إيجاد برامج تعنى بتوجيه شبابنا نحو التعليم والعمل المهني كونهما من عناصر التنمية الاقتصادية .. ومجالاته مربحة للعاملين فيه إذا أجادوا المهن المختلفة وأقدموا عليها طواعية .. فالعمل في المهن الحرفية لها المردود المادي الذي يمكن العاملين فيها من مواجهة أعباء الحياة .. ومن هنا دعوني اطرح العديد من التساؤلات :
ما هو الحال بالنسبة لشبابنا ومستقبلهم العملي؟ هل نستطيع أن نجزم بأن عدم إقبالهم على العمل في ذلك المجال عزوف أم لأسباب أخرى ؟ بذلك لابد من التعرف إلى تلك الأسباب لمساعدتهم في مواجهة الصعوبات التي تحول دون إقبالهم .. الأمر الذي يحتاج من الجهات المعنية المزيد من الوقت والجهد المتواصل لتحقيق الأهداف المنوطة بالتعليم المهني الذي تواصل الدولة الاهتمام به عاما بعد عام .. وهل يحترم المجتمع التعليم المهني؟ أم سيظل البعض يعتبره في مرتبة أقل من التعليم الجامعي .. وما هي الجهود التي تبذل لتغيير التوجهات وغرس مفاهيم صحيحة لقيم العمل .. ودفع شبابنا إلى مختلف أنواع المهن والحرف .. بل يجب دعم كل الجهود المبذولة للنهوض بالتعليم المهني وأساليب التحفيز المتبعة لجذب الشباب إلى هذا النوع من التعليم وآفاق تطوره .
ولا بد أيضاً من تغيير نظرة المجتمع الدونية تجاه العمل المهني .. بل إن دور الأسرة يجب أن يكون فاعلاً تجاه الأبناء بتشجيعهم نحو التعليم والعمل المهني باعتباره احد عناصر التنمية التي يشهدها المجتمع والتي تتطلب سواعد وطنية قادرة على العطاء والإبداع .
فتدني الإقبال على الحرف المهنية يعود لعدة أسباب أبرزها غياب الحوافز وعدم الأمان في التعليم المهني وعدم احترامه من قبل بعض أفراد المجتمع .. وأن العلاقة الأسرية تشكل الأساس في اختيار الطالب للالتحاق بالتعليم المهني .. بل يجب جديا إقامة حملات توعية للشباب بأهمية العمل المهني في البناء والتقدم وبيان احتياجات الدولة من الكفاءات وتدشين مؤسسات دعم تربوي لتوجيه الطلاب من المرحلة الثانوية .. ومعرفة ميولهم واتجاهاتهم وتشجيعهم عليها حتى يبدعوا وينجحوا ويتألقوا .. وبالتالي من الضرورات الملحة إيجاد مؤسسات لاكتشاف الميول والرغبات والتشجيع عليها بطريقة علمية وأكاديمية وإقناع ولي الأمر بميول ورغبات أبنائه .
ولا بد أيضا إلى تغيير بعض المفاهيم المترسخة في مجتمعنا بل إن المجتمع الأردني بحاجة إلى ثقافة تضرب بقوة في عمقه .. تلك الثقافة الذي تقوم بعض جوانبها على كثير من القيود والحواجز .. ولعل توارث القيم والعادات في المجتمع تعمل على تأصيلها والإبقاء عليها وتقويتها للإبقاء على الحياة كما هي أمام الكثير من التغيرات الحضارية والاجتماعية.. بل إن اختيار المهنة ليس ما يتعارض مع عادات المجتمع وتقاليده التي لا تقوم على أساس علمي أو شرعي .. بل أصبح هذا المفهوم يقوم على خرافات وتقاليد بالية عفى عليها الزمن .. ولم تعد تتماشى مع متطلبات العصر الحاضر.. بل يجب أن ننظر إلى هذا الموضوع بجديدة .. ونبتعد عن المفاهيم الخاطئة وننمي ثقافة مغايرة لثقافة العيب .. التي نتذرع بها ويتمسك بها كثير من أفراد مجتمعنا .. فهذه المهن لا تتعارض بالمطلق مع القيم أو مصلحة الوطن العامة.. وفي النهاية هو ما يتعارض مع النظام الذي تقوم عليه سياسة الوطن باعتبارنا مواطنين فيه وننتمي إليه.
أن النظرة إلى المهني أو ( الصنايعي ) وما يشوب تعريفة .. قد تحول إلى موروث اجتماعي وهو من منطلق متوارث تربينا عليه مازلنا رغم استهجاننا له ووعينا لأهميته نكرره على أبنائنا ونربيهم عليه.
أتمنى أن تكون هذه الرؤى نبراسا لطلبتنا الأعزاء الذين ما زالوا مصريين على انتهاج تقليد أعمى في اختيار تخصصاتهم .. سائلاً المولى عز وجل أن يعينهم على تحديد خيارهم الصحيح والذي سيضمن مستقبل مشرق واعد يضمن لهم سبل العيش الكريم .
مع تحياتي
الكاتب : فيصل تايه
البريد الالكتروني : Fsltyh@yahoo.com
الموقع الخاص بالكاتب : http://sites.google.com/site/faisaltayeh/home