.. كنت بريئا ، فجَّ الإحساس لا أبصر فرقا بين الناس، الكل سواء، الكل لآدم من حواء ... وقفت على هذا الميناء ، فرأيت صغيرا وكبيرا ، ورأيت حقيرا وخطيرا ، هذا يجلس والناس وقوف ، وهذا يمشي فتسير صفوف ، هذا يستقبله الحجاب، وهذا يترك خلف الأبواب ...
رحل القصيبي ، وانطوت صفحة من صفيحات النور التي كانت منارة للتائهين في عتمة غابات النخيل ، حمل معه الجمال والسحر والشعر المحرم وقصة نهضة لم ترى النور ، غالبه الليل الحزين ، وغالبه الداء المقيم ، وغالبه الآلام التي طغت ، وعاش وحيدا في
\" شقة الحرية \" التي أعدها لنفسه خشية عيون من يحاربون في \" معركة بلا راية \" وكان يخاطبهم من خلف الباب الموصود :
في يميني ورود جئت ازرعها ..على ضفائر فيها الليل مصلوب .
تحدث عن تنمية الفرد قبل الأرض ، واعد لهم في المؤسسات والوزارات التي شغلها منارات يهتدون بها ويسلكونها من بعده ، لكن الغلبة للجهلة ومانعي التجديد ، وكان يعتذر عن تسلم الوزارات إن كان مروره بها دون بصمات ، تارة يمنح الإشارة بالتغيير ، وتارة يحرم من التنوير ..
بقيت كتبه وشعره في سجن ذو قرار متين ، سنوات عشر ونيف لم ترى النور ، وحين أدركوا ولو بعد حين ، أطلقوا الحرية للكتب وأباحوا للناس قراءة ما كانوا بالكفر والزندقة يتهمون
لم يكن يخشى القيل والقال والتكفير ، ولم يكن ليعلن الاستسلام للمشككين ، بل أتى الديار بدم جديد ، لم يكن مرحبا بفكره ولا شعره ولا اعتقاده الا عند القليل ، والغلبة دوما للجاهلين .
اختلف معه جهلة و ظالمون ، قالوا انه زنديق ، وفاجر وملعون ، لم يخلع ثوب الدين وأقام العبادة في \" شقة الحرية \" التي اختارها بعيدا عن العيون ،أحاطوا بشعره وروايته سياج الدين !! وحرموا الاقتراب من حدود عقله ، فكيف لهم أن يصلوا لليقين !! واطفأوا شموع تضيء \" الشقة \" خشية ان تتحول إلى منارة للتائهين ... ووصفوها بال \" عصفورية \" حتى لا يسمع له احد ولا يلين ... ورغم كل كيد الكائدين كانت العصافير تطير خارج الغابة تحمل معها رسائل حب وسلام وتحمل الأنين ...
رحل القصيبي وفي كتابه ألف رغبة وتغيير ، رأى بعضا منها القليل ، وقتلوا ما تبقى وهو الكثير ، وسيقول أولئك انه رحل وكفانا شر قتاله إلى بعد حين ..
كنا نبتعد عن الزنادقة أو المتهمين بالزندقة ، حتى أدركنا ظلم وجهل التهم بحق المتنورين : وكان يقول في أخر كلماته الشعرية التي أهداها لإحدى حفيداته التي تقيم معه في المستشفى قبل وفاته :
الله يدري أنني مؤمن ..
في عمق قلبي رهبة للجليل
مهما طغى القبح يظل الهدى
كالطود يختال بوجه جميل
رحل القصيبي دون أن يعلن استسلامه لتيارات الجهل الطاغية في المدينة ، بل وخاض معها معارك عدة على أمل ان ينتصر في حرب التطوير والتنوير الحقيقي الذي يحلم به ، وكان يقول لمريديه وأتباعه حربنا معهم طويلة فلا تستعجلوا النصر !!! والنصر عند القصيبي التغيير الاجتماعي والديمقراطي والاقتصادي الذي ينشده الناس في المدينة .