رغم أنَّ المجتمع الأردني ما زال يتسم بالمحافظة النسبية، والتماسك الجيد، والعلاقات الاجتماعية المتباينة، فإنَّ بعض دويبات السوس قد أخذت تنخر في أساس هذا المجتمع، مهددة بنيان المجتمع وترابطه، عاملة على خلخلة المجتمع وإضعافه وهلهلته. ويتمحور ذلك أساساً في بعض المظاهر الاجتماعية المَرَضِيَّة، وتراجع دور الأسرة والعشيرة في الضبط الاجتماعي، وطغيان مظاهر الانفلات والتحلل والنفاق الاجتماعي، واختفاء قيم الكرم الحقيقية ونصرة المظلوم ورعاية اليتيم والشهامة، لصالح التكالب على المكاسب والمغانم دون أي حساب لأية مشاعر إنسانية.
تتحمل الحكومات الأردنية المتعاقبة جزءاً كبيراً من المسؤولية بسبب سياساتها المؤدية إلى ذلك بقصد أو دون قصد، ولكن إنَّ أي حكومة لن تعارض الإصلاح الاجتماعي العقلاني إن توفرت الإرادة الصادقة من عقلاء القوم ومقدميهم.
ومن هنا فإنَّ على وجهاء القوم وشيوخهم وأصحاب الرأي وأولي النهى والغيارى على قيم المجتمع وأخلاقياته أن تتكاتف جهودهم، وأن يبادروا لإصلاح ما يمكن إصلاحه، قبل أن تستفحل الأمور، ويتسع الفتق على الراتق، وتفلت من أيديهم إلى الأبد، وهم إن عزموا ونفذوا سيكونون قدوة حسنة لغيرهم، ولا بد أن يتحقق لهم ما ينشدون ويريدون من خير وإصلاح.
ما يجب بحثه ودراسته ومعالجته كثير جداً، وأغلب هذه المظاهر مترابطة بشكل كبير جداً، وأهم ما يستوجب إعادة النظر بجدية:
تكاليف الزواج وحفلاته الصاخبة التي أصبحت كابوساً يثقل كاهل الشباب والشابات على حد سواء، وأصبحت من أهم أسباب العنوسة، ومن مسببات التحلل والفساد، والمؤسف أنَّ الأغنياء والفقراء على حد سواء يتبارون في حفلات الزواج وتكاليفها رغم الويلات المترتبة عليها، ولا مبرر لها إلا التظاهر والتباهي الكاذب، الذي ينتهي غالباً بالمشاكل الزوجية والخلافات والطلاق والتفكك الأسري.
ولم تسلم بيوت العزاء للأسف من مظاهر المباهاة والتعالي على الغير، رغم أنها مجالس للمواساة والترحم على الأموات وتذكر الآخرة، وأصبحت تكاليف بيوت العزاء وما يرافقها لا تقل عن حفلات الزواج الباذخة، وهذا يستدعي تدخلاً سريعاً لإعادة الأمور إلى نصابها والعودة إلى البساطة والبعد عن كل المظاهر الكاذبة.
وتراجع دور كبير العشيرة وشيخها ولم يعد له ذلك الحضور المؤثر ولا الكلمة المسموعة، وتحولت العشيرة إلى عباءة نلبسها عند الضرورة وللمباهاة. أما الأب قائد الأسرة فلم يعد له وجود فعلي، إلا في حالات قليلة جداً لا يُقاس عليها، مما أدى إلى انفلات زمام الأسرة من يد الأب، وتحولت الأسرة إلى كيان هش تحكمها الرغبات والأنانيات والمصالح الشخصية.
وفترت إلى حد كبير صلات القربى والجوار وأصابها الوهن والضعف، وأصبحت علاقات موسمية فاترة لا روح فيها، يحكمها واجب اجتماعي، يعاني برودة إلى حد القشعريرة.
الخلافات العشائرية بلغت حداً غير مسبوق، يشعلها السفهاء، ويقع في أتونها الجميع، ويضيع فيها الحكماء، ولا يسمع لهم صوت إن كان لهم صوت أصلاً، وتزداد الخلافات وتتعمق لأسباب تافهة لم تكن ذات شأن في السابق.
أما مظاهر العُري وغرائب الأزياء والتسريحات والسلوكيات الفجة المستهجنة، فقد غزت مجتمعنا وأخرجته من سمته المحافظ إلى مجتمع مهدد بالتفسخ والانحلال إن لم يوضع حد لهذا الانفلات المتسارع دون أي رادع أسري أو اجتماعي أو تربوي، وللأسف فإنَّ هذه المظاهر أفقدت جيل المستقبل هويته وتميزه، وجعلته جيلاً هلامياً لا قوام له، جيل ضائع بلا أهداف أو غايات، جيل يسير خلف نزواته وأهوائه وشيطانه.
سلطة المؤسسة التربوية والتعليمية ممثلة بالمدارس والجامعات أصبحت صورية لا وجوداً فعلياً لها، بل مما زاد الطين بلة أنه تم التجرؤ على رمز هذه المؤسسة وهو المعلم المربي الثاني وقد يكون الأول للناشئة وللشباب، وساهم المجتمع بمؤسساته المختلفة والإعلام بمختلف وسائله بلعب دور تحريضي غير مقصود في ذلك، وهذا أدى إلى مشكلات كثيرة ليس أقلها فقدان القدوة الحسنة والمؤثرة في وجدان الجيل، وأصبح الفارغون بمختلف مسمياتهم هم القدوة والمثل الأعلى للشباب.
ولكل ما سبق وغيره، فإنَّ اجتماع عقلاء القوم وحكمائهم أصبح ضرورة ملحة، للتوافق على عقد اجتماعي جديد يعالج مظاهر الخلل والإشكال والتفلت الاجتماعي، مرتكزين على قيم الإسلام وأخلاقياته لأنها الأساس المتين لأي إصلاح، وهي قيم توافقية لا يختلف عليها أحد، وإن كان غير مسلم. لا نريد مدونات أو وثائقيات أو توصيات، تنتهي قبل أن يجف حبرها، وإنما نريد حلفاً كحلف الفضول ملزم للجميع كبارهم قبل صغارهم، وللوجهاء قبل الدهماء، وللخاصة قبل العامة، وللأغنياء قبل الفقراء.
لا يوجد متسع، والوقت يمضي بسرعة، والمطلوب إصلاح السفينة قبل أن تغرق، وقبل الإصلاح يجب أن نأخذ على يد المخربين، ولا ندعهم يثقبون جدران السفينة أو باطنها بأي حجة أو مبرر كان.