عُرف وبان جليا للجميع أن شعبنا الطيب قد يكون من أكثر شعوب المعمورة تأقلما مع ظروف الحياة ومستجداتها وتغيراتها السلبية وإن كثرت والإيجابية على ندرتها، فمع تسارع ازدياد أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية والفرعية والكمالية، وارتفاع أسعار الشقق والعقارات الجنوني، وتأخر سن الزواج وارتفاع تكاليفه، وارتفاع نسبة البطالة واتساع رقعة الفقر، وتدني الرواتب نسبيا لعموم موظفي الدولة وانخفاض دخل المهنيين في الغالب، وجد الأردنيون أنفسهم متأقلمين مع كل هذه الأنماط وحاولوا التوافق مع كل مستجد وطارئ سواء أكانوا طائعين أم مجبرين، حتى غدت صورة العيش الكريم بعيون المواطنون متأطرة بحدود تأمين الخدمات الأساسية وحسب، فوجدوا أنفسهم يحنون إلى زمن ولى ولن يعود على ما يبدو أبدا، ووقفوا على أطلال ركام الماضي محاولين مداعبة ذكريات الزمن الجميل.
في حقيقة الأمر نحن نريد من شعبنا التحرر من العيش متغنيا بزمن لن يعود فدولاب الحياة لا يرجع إلى الوراء أبدا، نطلب من شعبنا الأصيل ألا يبقى يلوك بمطالبه ويقتات من همه اليومي ويضع ملح الماضي على جرح الحاضر الغائر في نفسه وروحه، نريد محاربة أسقام عقولنا قبل أسقام أجسامنا، ونريد وقف النزف من الأرواح المقهورة، نمني النفس بألا نجعل من التحديات والصعوبات وإن عظمت حجر عثرة في وجه طموحاتنا وآمالنا، فيجب علينا التماسك أمام هذه الأمواج التي تتلاطم وألا نتجاهل العواصف العاتية التي تحيط بنا في كل مكان، ويجب علينا عدم تسليم مراكبنا للصدفة والحظ لتتلاعب بنا الأمواج كيفما تشاء آملين وباحثين عن شطئان أمل مجهولة العنوان، لا نريد أن ننسج من خيوط الآمال ثوبا يحجب عنا نور الحقيقة ومن الأحلام بلسما شافيا لتقرحات عقولنا وضمائرنا.
بكل تأكيد نحن لا ننادي بالانسلاخ من الماضي بل نطالب بالاستفادة منه لتقويم الحاضر، نحن ضد الاستقلال من القديم إلى الحديث بلا هوادة وبلا تقنين وبلا استرشاد، ومع تمحيص الأمور بين نافع وضار وغث وسمين، نريد ضبط الأمور والموازنة بين الماضي والتعايش مع الحاضر والنظرة إلى المستقبل، لا ندفن أنفسنا في قبور ما فات، ولا نغرق بهموم اليوم، ولا نلهث وراء أوهام المستقبل، فالتحرر من الماضي لا يعني الإقبال على الحداثة السلبية التي غزتنا هذه الأيام ولا التعري من كل قيمنا وعاداتنا وأخلاقنا خوفا من نعتنا بالتخلف والرجعية، المتنور الحقيقي والمتطور الحقيقي هو الذي يصنع من دقيق الماضي وبيض الحاضر وماء المستقبل العجينة الأقوى لسد الثغور في سفينة الحياة لتسير نحو بر الأمان بأمان.
الحنين إلى الماضي جميل وملموس ومطلوب أيضا ولكن التقوقع في بوتقة الماضي هي الطامة، الحياة تغيرت كثيرا بل وأكثر من كثير، يجب علينا ألا ننسى أننا نعيش في زمن أصبح العالم فيه قرية أصغر من صغيرة وأصبح التواصل بين البشر في كل أصقاع الدنيا شيئا روتيني وطبيعي وبسيط، حتى رعاة الشاة الأجلاء أدخلوا الهواتف النقالة في عملهم، والعمليات الجراحية أصبحت تجرى عبر الإنترنت، وحوادث السير تصور على الهاتف النقال وترسل إلى شركات التأمين، بل يجري العمل حاليا على جعل راحة اليد آله حاسبة وهاتف محمول، لا يمكن تجاهل كل هذه الثورات العلمية والتكنولوجية حتى في خضم معركة تأمين القوت اليومي، فالإبداع دائما كما يقولون يولد من رحم المعاناة.
جوهر التغير الحقيقي يكمن في دعم مسيرة التطوير والتحديث والتغيير الإيجابي والإصلاح ومكافحة الفساد وأهله بكل أشكاله من رشوة وتهريب وواسطة ومحسوبية وغيره، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب بلا محاباة ولا تمييز وفق معايير الكفاءة والخبرات والتفوق بصرف النظر ابن من يكون هذا الشخص ومن يقف خلفه، ونبذ كل الأفكار المتطرفة تكفيرا أو تخوينا وإلغاء الإقصاء والاستئصال، وتعزيز روح التواصل وتنمية ورعاية ثقافة الحوار وتعزيز الروح الوطنية، والبحث عن حلول لمعضلة المعضلات وأم الخبائث ورأس كل فتنة وهي البطالة ووليدها الفقر، فقطار الرواتب والأجور لا يسير بنفس منحنى الارتفاع الصاعد كالبرق نحو الأعلى، فكل هذا يجبرنا على إيجاد الحلول عن طريق برامج اقتصادية واستثمارية صحيحة ومثمرة، هذه ليست كل المشاكل بالتأكيد ولكن أهمها، ولا تتم معالجة كل ما ذكرنا وأكثر إلا عن طريق التواصل والتقارب وردم الفجوة العميقة في الثقة بين المسؤولين والخبراء وأصحاب التجارب الناجحة من أبناء شعبنا الطيب والاستفادة من المغتربين بنقل تجارب نجاحاتهم في البلدان التي يعيشون إلى بلدهم الأم.
في جميع مناحي الحياة يجب دائما الموازنة واعتماد العقلانية والنظرة الموضوعية في حل جميع ما يواجهنا من معضلات ومشاكل، والابتعاد عن التفكير السلبي والنظرة السوداء القاتمة للأمور، فرغم كل ما نعاني ونكابد يبقى هناك مجال للطموح والإبداع والأمل مشروع دائما بالله عز وجل ومن ثم بقدرات كل منا على اختلافها.