مما لا شك فيه أن لكل المسلمين في كل قطر من أقطار الأرض تعلُّقٌ بهذا المسجد , لا يزيدُ هُم بُعْدُ الشُّقةِ إلا قوة ً , ولا يولّيهم كرُّ العصور إلا جدّة , لأنّه يكتنه بعديْن جوهريين من الأبعاد التي لا يمكن إقصاؤها , مهما طال الصراع , ومهما حاول المرجفون في إطار من العبثية المطلقة تغيير معالم المسجد أو القدس بشكل عام , ذلك لأنّ كثافة شعورية , وبعداً دينيًا عقدياً , تظلّان ذات حضور فعليّ , على مستوى الوعي الديني والإيمان العقدي , بل تشكلان مكونا من مكونات العقيدة لدى الإنسان المسلم , وهيهات هيهات تنفك عراها عن كنه المسلم !
فالمسجد الأقصى مسرى الرسول العربي ، نبي الهدى والرحمة ، الذي أخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ظلمات الكون إلى نور المكوِّن ، (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) . وهو قبلة المسلمين الأولى ، وثالث الحرمين الشريفين .
لا جرم أنّ للتاريخ رجعة ، وفيه عبرة ، وفيه شفاء المستشفي ، وكفاية المكتفي ، وإن تراخت الأحقاب وتمادى الزمن ، وإنك لتجد الرجل النبيه ، يقرأ التاريخ فينظر في أعطافه ، ويسبر أغواره حتى يتعرف مخبره ، ويبحث في مشتبها ته ، أجل لقد فُتِحت كثير من المدن والأمصار، على يد جيوش الفتح العربي الإسلامي ، ولكن ما يلفت الانتباه ويسترعي التدبر ، أن مدينة القدس حظيت بزيارة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – من بين جميع المدن والأمصار، والبلاد والأقطار ، مما يترجم بشكل واضح أبعاد تلك الزيارة ، فضلاً عن العهدة التي وُسِمت باسمه \" العهدة العمرية \" ، فمكانة القدس والمسجد الأقصى ، مكانة دينية عقدية ، أضف إلى ذلك كله ، أنّ بيت المقدس مدينة الأنبياء والرسل ، لذا فهي بقعة مباركة ، تتموضع في صميم العقيدة الإسلامية .
وإنّ اهتمام الخلفاء على مر الحقب والأزمان له ما له من أبعاد علائقية ، تمتح من نظرة الإسلام إلى القدس ، فهذا عبد الملك بن مروان يبني قبة الصخرة ، فضلاً عن اهتمام الوليد بن عبد الملك ببناء المسجد الأقصى ، كما أصبحت المدينة المقدسة ، محور اهتمام الخلفاء والسلاطين والملوك على مر الحقب الزمنية المتعاقبة ، إلى أن أصبحت أبهى رواءً وأكثر نفعًا وأدنى قطافًا كبؤرة علمية التمع فيها أساطين العلم والفكر والأدب ،ومحجًا لكل من يحدوه طموح لدرجات العلم والفكر والبيان .
أما في العصور الحديثة ، فقد ارتبط الهاشميون بالقدس ، منذ قيام الثورة العربية الكبرى ، التي فجرها الشريف الهاشمي الحسين بن علي ، ومقولته المشهورة سُجِلت في سفر الخلود \" إننا نحافظ على أصغر قرية في فلسطين محافظتنا على بيت الله الحرام \" كما قام بترميم المسجد الأقصى ، مما يجسد عمق ارتباط البيت الحرام بهذه المدينة المقدسة ، ولقد أوصى أن يُدْفن في ساحة حَرَمها الشريف ، أجل أيها السادة : لا يماري أحد مدى تجذر القدس في وجدان بني هاشم ، فضلًا عن سعيهم الدءوب في بناء رؤية حضارية قوامها الحرية والعدالة والوحدة .
أجل أيها السادة : الحق أبلج والباطل لجلج ، لقد كان لاهتمام عبد الله بن الحسين بالمسجد الأقصى ، ودفاعه عن المدينة المقدسة ، رؤية خلابة في تجليات المحبة والسلام ، وتطلعاته السامقة لغد مشرق قوامه المحبة والسلام والتسامح ، ومما لا شك فيه أنّ نشامى الجيش العربي الأردني سجل أروع البطولات ، مدافعا عن ثرى القدس ، على الرغم من كل الصعوبات التي كان يواجهها ، ولقد سقط الغر الميامين شهداء على أسوارها ، ليظلوا قناديل مضيئة في ليل الأمة المدلهم ، وأما الملك الشيخ عبد الله بن الحسين – طيب الله ثراه – فقد استشهد على بوابة الأقصى مسطرًا بدمه الأزهى آيات من نور تتحدث عن كنه العلاقة الهاشمية بالقدس ، أما جلالة الملك الحسين بن طلال – طيب الله ثراه – فقد عني بالقدس مدينة ومؤسسات ومقدسات أيّما اهتمام ، من ذلك مثلا لا على سبيل الحصر عنايته بإعمار قبة الصخرة المشرفة ، التي حال الاحتلال الإسرائيلي دون الاستمرار في المرحلة الثانية ، إذ أتى الحريق على أكثر من ثلثي المسجد الأقصى وعلى المنبر التاريخي ، إلا إن جلالة الملك الراحل – طيب الله ثراه – أمر بالإسراع بتعمير المسجد الأقصى المبارك وترميم الزخارف والنوافذ والقبة الخشبية الداخلية وإصلاح القبة الخارجية ، وصنع المنبر التاريخي ، وأما جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين- أيده الله - فقد أمر بتجديد فرش المسجد بالسجاد على نفقته الخاصة كما أمر لجنة الاعمار ببناء مئذنة خامسة وأكد قائلًا (إنّ الحفاظ على المقدسات الإسلامية وإعمارها أمانة في عنقي وسأستمر في دعمها على خطى الآباء والأجداد ) ، أجل أيها السادة : لقد كان لهذا الإعمار الهاشمي وهذا الاهتمام الموصول هدفه الواضح ، وبغيته السامقة ، لتبقى القدس عربية إسلامية ولتبقى القدس زهرة المدائن وسيدتها ، ولا بدّ أن يُنتصف من الدهر الغادر ، بتجديد ذلك المجد الغابر ، ولا بدّ من أن تنقشع حنادس الأيام ، وتمْحي آيةُ النور آيةَ الظلام ، وتطلع الشمسُ من مشرقها ، ويعودُ الأمر إلى نصابه ، ويفك الله أسر المسجد من براثن الطغاة . حمى الله الأردن وعاش الملك .
الدكتور محمود سليم هياجنه
hayaj64@gmail.com