من الأمور التي أصبحت من بديهيات تسلم المناصب الرفيعة في هذا البلد الأغلى على قلوبنا هو وجود جينات وراثية حية في دم المرشح للمنصب مستمدة من أحد الأقارب الدرجة الأولى أو الثانية أو حتى الثالثة وذلك حسب الأولويات طبعا والأقدمية ونوعية منصب القريب المورث للجينات، ففي بلدنا الغالي عاصرنا رئاسة الوزراء تنتقل من الأب إلى الإبن إلى الحفيد، وشهدنا تسلم شقيقين لأهم منصبين في البلد، الأول رئيسا للوزراء والثاني مديرا لأهم جهاز أمني في البلد، وشقيقين آخران تسلما رئاسة الحكومة في أوقات متلاحقة، وشاهدنا وزير داخلية وابن أخيه مديرا لجهاز أمني رئيسي في نفس الوقت ، ومر الوقت الذي كان فيه أحدهم رئيسا للوزراء وابن شقيقته وزيرا وزوج شقيقته (والد الوزير) رئيسا لمجلس الأمة، ورئيس مجلس نواب وولده الوزير وابن رئيس وزراء مديرا للملكية، وأبناء رؤساء وزراء موظفين رفيعين هنا وهناك، القائمة تطول ونحن نتحدث عنها من باب السرد فقط وليس من باب الحسد بالتأكيد، فنحن كطبقة فقيرة ومهما امتلكنا من إمكانيات تفوق أبناء المسؤولين وأبناء أخواتهم وإخوانهم وأقاربهم من مختلف الدرجات سنبقى نعاني من عدم توفر جين المسؤولية والتوريث.
بدأنا نشعر أنه من المستحيل أن يعود الزمن الذي تعتبر فيه الكفاءة والخبرة والجدارة والتفوق والإخلاص بالعمل المعيار الحقيقي والوحيد لتعيين المناصب العليا والوظائف ذات القيمة، وأنه تم استبدال كل ذلك باعتبارات جديدة تعتمد سياسة الاسترضاء والمنفعة المتبادلة والمحاصصة بين المتنفذين والتوريث بكل تأكيد، غابت المعايير العادلة والفرص المتساوية والتنافس الحقيقي أمام المبدعين وحل عوضا عنه الواسطة والمحسوبية وما أسلفنا من معايير زائفة أثبتت عدم جدواها، أصبحنا نخشى أن يصاب المبدع بإحباط وقد حدث إلى حد ما جراء يأسه من المنافسة على وظيفة هو الأجدر بها أصلا لو تم تطبيق المعايير المهنية الصحيحة، ولكن المناصب اليوم في بلدي أصبحت في القسم الأكبر منها علب هدايا جاهزة توزع في الوقت المناسب أو جزء من ميراث أحد الأقارب يقوم بتوريثه للنسخة الجديدة منه وللرجل غير المناسب في الغالب، أتمنى ألا نصل إلى مرحلة تصبح فيها هجرة العقول والمبدعين ظاهرة مقلقة لكل غيور على هذا الوطن، فمن البديهي أن يبحث المتفوق عن ميدان يعتمد التنافسية والإبداع كمقياس لتسلم المناصب والتدرج بالوظائف حسب الكفاءة والإنتاجية بعد أن أغلق ميدان الوطن بابه أمام السواد الأعظم من أبناء هذا الشعب الطيب، واختصرت القائمة على عدد من الشخصيات تتوزع المناصب فيما بينها وتتكرم أحيانا على الأناس العاديين أمثالنا ببعض الوظائف من باب إطعام الأفواه سعيا لإخجال العين، وبعد ذلك كله لم يعد مفاجئا أو مستغربا أن ترتفع الأصوات معترضة ومحتجة عند كل تشكيل لحكومة أو تعيين لمنصب أو تشكيل لمجلس معين؛ لأنه ربما لجأ البعض لسياسة المحاصصة والتأكيد عليها حماية للطبقة الأضعف التي لا تجد مفرا من المطالبة بهذه الطريقة على الرغم من عدم قناعتها ولكن لا خيار أمامهم سواه.
لا يسعني في نهاية حديثي إلا أن أبارك لشعبنا ولدولة رئيس الوزراء بنجاح نجله بالثانوية العامة وتسجيله في إحدى الجامعات الأمريكية، ليعود لنا بعد سنوات لسن بطوال رئيسا شابا للوزراء، فزيد قد اعتاد سماع كلمة دولة قبل ولادته حتى، أهنئ الجميع بدولة رئيس الوزراء القادم، ولا يسعني طبعا إلا أن أكرر جملتي التي عرفتموها عني \" لك الله يا شعبي الطيب\" فهو نعم المولى ونعم النصير.
abomer_os@yahoo.com