انطلقت فكرة جولتي الميدانية هذه عام 1999 م ، نتيجة زيارة استجمام الى الحمة الأردنية بعد انقطاع لزيارتها دام لعدة سنوات ، ومشاهدة ما لم اتوقعه أو يتوقعه غيري ممن يعرفون تاريخ الحمة الأردنية السياحي في السبعينيات ولغاية الثمانينيات من القرن الماضي وما كان يتصف به موقع الحمة من جمال خلاب يتناقل عبر مشاعر زواره الأردنيين والعرب والأجانب دون استثناء .. !!
وللألم الذي أصابني لما رأته عيناي من تراجع في جمالية الحمة الأردنية نتيجة الاهمال بكافة الجوانب ، آثرت مغادرة المكان علّي استعيد بعضاً من ذاكرتي لتاريخ امتلأت طياته بذكريات أجيالٍ ما فتؤا يتناقلون الأحاديث كلما جدّ التعب عليهم وعانق الشوق والحنين الروح التي أبداً لن تنسلخ عنها ذكريات زمنٍ ليس ببعيد ..!!
فكانت أم قيس \" جدارا \" وجهتي الثانية كمحطة انطلاق جديدة لجولتي السياحية في شمال الأردن ، لقد كانت من أجمل رحلاتي منذ الطفولة ، ولكن الفرحة لم تكتمل ، فعندما دخلت بوابة \"جدارا \" ذاك اليوم الجميل .. وعبر بوابتها ومدخلها الجديد المار بين أطلال مدينة أم قيس القديمة ، التي تعود إلى العصر العثماني ، وكانت قد أنشأت فوق أم قيس الرومانية ، فتجولت في أزقتها الدافئة التي تعيد إلى الطفولة عهدها ، وكان الإهمال وعدم الاهتمام فيها قد قتل حميتي في إكمال الجولة والعودة من حيث أتيت ، إلاّ أن عقلي أبا الاستسلام .. فتابعت المسير وفي القلب غصة ، إلى أن وصلت مدينة أم قيــــس الأثريـة \" جــدارا \" . فأخذت مكاناً للراحة والتأمل في الجزء الشمالي من الموقع ، وعلى أحد الخنادق العسكرية المهجورة كانت جلستي ، والألم في داخلي بازدياد مستمر ، طبيعة لا توصـف ، تجلت فيها عظمة الخالق ، وهواء يشفي العليل ، وأطلال فلسطين الأبية تلوح في الأفق القريب ، وجبالها الشامخة شموخ السماء تبتسم ، والدمع الحزين يشق تضاريسها ، وبريق مياه بحيرة طبريا يعكس نقاء القلب المجروح ( فلسطين ) ، وتزاورك مرتفعات الجولان المكلومة من بعيد ، تتألم وتستغيث بحسام صلاح الدين المسلول … وصمود جبالها التي لطالما حلمنا بتسلقها يوماً ، وصدى الصوت في أوديتها ينادي بالعروبة … ولكن هل من مجيب ؟!
بعد أن صبّت الحكومات المتعاقبة كل اهتماماتها على تنشيط الحركة السياحية في الجنوب والوسط الأردني ، فكان لا بد من أن ينال أيضاً الشمال الأردني حقه التاريخي والانساني من هذه الاهتمامات كباقي المواقع السياحية الأخرى التي نعتز بها والواقعة على جغرافية الأردن المعاصر ..!!
فكيفما توجهت البوصلة السياحية وعلى كافة اتجاهاتها عبر الجغرافية الأردنية ، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ، ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق .. تجد أن ثرى الأردن يزخر بالكثير من الحضارات والمواقع الأثرية والتراثية ، ولا مجال للتمييز بين هذه المواقع بقيمتها التاريخية والسياحية عبر الأجيال ، لأن تاريخها هو تاريخ واحد لدولة واحدة هي \" المملكة الأردنية الهاشمية \" التي نعتز بها أينما حللنا أو رحلنا .. إلاّ أن هذا لا يعني أن كل من المواقع تلك له خصوصيته التاريخية والمعمارية التي تٌكمل وتترابط مع قريناتها بذات السلسلة التاريخية التي طوقت ثرى هذا الوطن .. ولن نتجاهل أن لكل من هذه المواقع له أهميته التاريخية والسياحية باستقلالية تامة ، فالفوارق التاريخية والمعمارية والفنية ظاهرة بين أغلب المواقع ، على الرغم من بعض الأمور التجانسية فيما بينها ، لكن بالتالي يجب أن نقرّ أن هذه المواقع مجتمعة كوّنت قيمة تاريخية وحضارية للأردن الحديث ، جعلت منه متحفاً يتغنى بمقتنياته القيمة لينافس بها العديد من دول العالم . !!
إن تنشيط الحركة السياحية في إقليم الشمال بات بالفعل شبه معدوم ، فهذا الإقليم الذي يحتضن في كل شريان من شرايينه عبق التاريخ القديم ، وينبض بحضارات لم تتوانى أبدأ عن تقديم أجمل وأبهى ثقافاتها عبر العصور المختلفة ، وجعلوا من فنونهم المعمارية ومخلفاتهم التي لا تعد ولا تحصى ، صروحاً ورموزاً تقرأ من خلالها عُمق تاريخهم و موروثهم العريق ، ليزدان بها المتحف الأردني ، حتى أصبح من خلالها مرجعاً غنياً ، ينهل منه العلماء علمهم ، والمؤرخون يدوّنون على صفحات الأردن ، والآثاريون يكتشفون في كل يومٍ وفي شتى بقاعه عن رموزٍ جديدة ، وشواهد قيمة تطفئ ظمأ علماء الآثار والأنثروبولوجيا ، بمدلولاتٍ قيمة تكشف عن أجوبةٍ طال السؤال عنها ، ومع كل هذا لا زال هذا الإقليم يعاني من تراجع كبير في تنشيط قطاعاته السياحية عما كانت عليه كما أسلفت في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ..!!
ولا ننكر هنا أيضاً أن مسؤولية التنشيط السياحي والمحافظة على موروث الأجــداد ، والترويج له ، وتسويقه بأجمل حلله . \" وكما ذكرت في مقال سابق بالتفصيل \" هي مسؤولية مشتركة ، ما بين القطاع الرســــمي \" الدولة \" والقطاع الخاص \" المستثمرين والمنظمات الغير رسمية والمجتمع المحلي \" . فكلٌ عليه واجبات تجاه هذا القطاع الحيوي ، ولا يمكن أن يكون حيوياً إذا ما تكاتفت هذه القطاعات معـاً ، وبصورة جادة ومدروسة تعكس الوجه الحضاري والتاريخي للأردن . بعيداً عن الارتجال في تخطيط الإستراتيجيات السياحية ، والمصداقية في تناقل المعلومات الخاصة بالترويج والتسـويق السياحي عبر كافة وسائل الإعلام .
ومن هنا ، لا بد من أن نتأنى في توجيه اللّوم وبصورة مستمرة على الحكومات في تنشيط الحركة السياحية رغم تقصيرها ، ونغفل عن الدور الفعال الذي من الممكن أن يقوم به القطـاع الخاص ، فكلٌ له دور فعال ، وفعال جداً . وكما يقول المثل الموروث .. \" الكف الواحد لا يصفق \" ، نعم الكف الواحد لا يصفق إن لم يقابله الكف الآخر ، وعند تلاحم الكفان وبقوة ، يدوي صدى تلاحمها ليخترق الأجساد ونصحُ من آتون النسيان الذي ألم بمدننا التاريخية ..!!
تبدأ المسؤولية الوطنية من الطفل الوليد وما ننشئه عليه من ولاءٍ وانتماء لثرى وطنه وأمته .. والعالم بعلمه .. والمسؤول بصلاحياته المناط بها . وليست هنالك حدود تتوقف عندها المسؤولية الوطنية ، فهي مستمرة ما دامت عجلة الحياة تدور ..!!
وإن لم نسعى متكاتفين ومتعاضدين ، لرفع شأن هذا القطاع الهام ( قطاع السياحة ) وجعل مساهماته في الدخل القومي ركيزة أساسية في الاقتصاد الوطني ، والخروج به من حالة السكون والموت البطيء إلى حالة الحركة الدؤوبة والمستمرة على الدوام ، وندع الشمس تشرق عليه ساطعةً تبهر الدنيا بأسرها ، وتشدهم إليه من كافة بقاع الأرض ، ليشاهدوا التاريخ بعينه ، والحضارات بأسرها ، التي أحبت ثرى الأردن ، فلمست فيه أجمل لحظات حنينـها ، فاحتضنته وغرست فيه أطيب بذار فنونها وثقافاتها . وإن لم ندرك هذا التاريخ وهذه الحضـارات ، فسنكون حينئذ لشروق شمسها جاحدين .
ولإنصاف هذه المدن التاريخية والحضارات التي تعاقبت على ثرى شمال الأردن عبر العصور المختلفة ، والسعي لإخراجها من آتون النسيان إلى بؤرة أثرية سياحية حيّة على الدوام ، ولأن الآثار لكل أمة عنوان مجدها ، وتراث الأقدمين من أبنائها ، فإن العناية بها وصيانتها من شرور الطبيعة وجبروت الإنسان ، من أهم الواجبات التي وضعتها الأمم محل الرعاية والتقدير .
akoursalem@yahoo.com م. سالم أحمد عكور