استاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك
Mohammedtorki@yahoo.com
تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية الخمسين لاستشهاد الرمز الوطني الخالد الشهيد هزاع المجالي، رائد المدرسة الواقعية في الفكر السياسي الأردني الحديث وركن من أركان المعارضة السياسية، ولما كان لهذا اليوم دلالاته ومكانته في نفوسنا فإنه لا بد أن نستذكر فيه الشهيد الراحل وتستيقظ فيه الذاكرة على تضحيات وبطولات العديد من الشخصيات الوطنية ذلك أنه من الجحود والنكران أن تمرّ مثل هذه المناسبة دون أدنى توقف أو التفات.
هزاع من خلال كتاباته ومواقفه في المعارضة والسلطة يعد بحق قيمة وقامة وطنية سامقة وتزداد هذه القيمة ويرتفع بنيان هذه القامة عندما يكون صاحبها هزاع المجالي الذي إنحاز للدفاع عن المجتمع والشعب والمصالح العليا للبلاد سواء كان في المعارضة أو السلطة. والمعارضة في تلك الفترة كانت محل احترام وتقدير ويحسب لها ألف حساب فقد كانت في أبها حالاتها وقد كانت أكثر تمثيلاً للشارع وأكثر أصالة وأكثر قدرة على التعبئة، وليس كحال المعارضة والمجتمع المدني الممول في هذا الزمن الذي يتقمص فيه القتله دور الضحية وترتفع أصوات المتأمركين والمتصهينين مواقفاً ومالاً وسياسةً، وتتحول المقاومة إرهاباً في زمن الاعتدال العربي الرسمي.
وباختصار نقول إن النظرة للمعارضة السياسية في الوطن العربي لا تزال سلبية او نابذة يسودها الشك والريبة، وبذلك تحتكر السلطة القائمة المجال السياسي وتعتبره ملكية خاصة للسلطة او النخبة الحاكمة وليس ملكية عمومية لسائر أفراد المجتمع ولذلك يتم حرمان واقصاء وفي حالات تصفية المعارضة ومنعها من حقها المشروع في الوجود والعمل والتعبير ولذلك يجب ان لا تستغرب ظاهرة العنف السياسي الوحشي السائد في معظم البلاد العربية.
هزاع رجل الدولة لم يضع هدفه السلطة حتى بعد أن وصل إليها بقي الحفاظ على الثوابت هدفه ونصرة المظلوم ديدنه والتصدي لتغول أصحاب النفوذ على الدولة والمجتمع من سماته لم تكن رؤيته للحكم والولاية العامة للحكومة تقوم على التعالي والتفرد في اتخاذ القرار وإنما التقيد بأحكام الدستور.
والحقيقة أن العودة إلى مذكرات مجلس النواب الثالث ومحاضر الجلسات تؤكد بما لا يقبل الشك أن هزاع لم يكن صاحب شعار سياسي وأنما صحاب مشروع سياسي بالمعنى الحقيقي للكلمة ولديه رؤية متماسكة لهذا المشروع الوطني الديمقراطي الذي كان بمثابة المرجع الذي ينهل منه هزاع والبوصلة التي يهتدي بها وقد قام هذا المشروع على وجوب حماية وصون ثوابت الأمة وأحاطتها بالقدسية.
وبالمجمل كان هزاع ركن من أركان المعارضة السياسية متمسك بالثوابت الوطنية رغم تغيير الظروف ومتغيرات الواقع، بعيداً كل البعد عن مسالك المساومةعلى الثوابت العليا، فقدم الاسئلة والاستجوابات للحكومة وناقش الميزانية مشككاً بالأرقام التي قدمتها الحكومة وتبنى المطالب الشعبية ودافع عن الفقراء والمستضعفين.
في السلطة أمن هزاع أن السياسة تقوم على مقتضى العقل لا مقتضى الهوى والمزاج فانتهج سبيل التخطيط والحساب الدقيق وإدارة الأمور بحنكة وعلى أسس برامجية تخاطب عقول الناس لا عواطفها ومشاعرها والسعي لتحقيق التوازن الضروري بين الممكن الواقعي وبين الواجب الفكري والأخلاقي لقد بقي هزاع محافظاً على حسه الوطني ومتمسكاً بشعوره القومي وانتمائه الإنساني.
والحقيقة أنه لا مجال للمقارنه بأي حال من الأحوال بين هزاع والكثير ممن تسلموا المسؤولية في بلادنا والذين سرعان ما انطفأت أنوارهم وفقدت وهجها لا سيما أنها ساومت وباعت وقبضت ثمن الأهداف التي وصلت إلى السلطة من أجل تحقيقها، وبدل من أن يكون تسلم المسؤولية هو ذروة إنجازاتها أصبح بمثابه إعلان وفاة لها وبعضها لا زال ينظّر بالوطنية.
لقد كان هزاع يشاهد في شوارع عمان يقود سيارته بنفسه دون حراسة مؤمناً أن خير قلعة يحتمي بها القائد هي محبة واحترام الشعب، فعاش واستشهد وهو قريبٌ من الناس لا بعيداً أو غريباً عنهم، وعندما نصحه السفير البريطاني في الأردن تشارلز جونستون بتشديد الإجراءات الأمنية لحماية شخصه رد قائلاً: نحن المجالية معتادون على أن نَقتل وأن نُقتل. إنه رجل والرجال ليسوا بشهادة الميلاد بل بشهادة المواقف.
إن استلهام مسيرة ومواقف هزاع المجالي يكون بتحويل مثل هذه المناسبات إلى مانفستو وطني نستلهم منه العبر والدروس ونشحذ الهمم والطاقات ونبذل المزيد من العطاء والجهد من أجل تحقيق المزيد من التقدم والإنجاز في الحرية والتحرر والعيش الكريم والوقوف ضد الظلم والطغيان أي كان مصدره كل ذلك بأنفة وكبرياء وشموخ في مسيرة طويلة نتمسك فيها بلغة الأمل والإيمان والحب والتضحية ورفض الخوف والتردد والشك والتشكيك والإثارة، فذلك هو التجسيد الحقيقي لقيم الوطنية الصادقة والانتماء والوفاء لتضحيات ومواقف ذلك الجيل، وهذه مسؤولية تقع على عاتق الجميع منا وتستلزم إرادة قوية ونضال شعبي مستمر.
إنها مناسبة لتوحيد الصفوف وصياغة خطاب سياسي جديد وبرنامج وطني جاد لمواجهة التحديات والأخطار، ولا سيما أننا في بيئة إقليمية مضطربة مليئة بالأعداء والطامعين سواء على الصعيد الخارجي أو الداخلي، فالأعداء الخارجيين يسهل معرفتهم وكشف نواياهم وأهدافهم، وبالتالي احتوائهم وتحييدهم أما الأعداء الداخليون الذين يعيشون بيننا، فهم أشد خطورة، حيث يختبئون خلف كثير من الأقنعة، ويغيّرون أساليبهم واستراتيجياتهم إلا أن طبيعتهم وأغراضهم واحدة يسعون لتحقيق مصالحهم بعيداً عن كل المبادئ والمثل والقيم الإنسانية النبيلة، فلا يترددوا في المتاجرة بالأوطان والإنسان في سبيل مصالحهم الشخصية، إن صمتنا وسلبية وتردد الغالبية منا قد مهّدت الطريق لهذه الطحالب أن تطفو على السطح وهيئت لها الظروف، فأصبح أفرادها سادة الزمان وفرسان الميدان، ولكن لا بد لهذا الكابوس من نهاية ولا سيما أن أفكار ومواقف وسياسات هذه الفئة قد أدت إلى أزمة داخلية أبرز مظاهرها الحرمان الاقتصادي والمقت السياسي والغضب الاجتماعي، وبالتالي فإن النهاية المنطقية لهذه الفئة بعد فشل برامجها ونهاية مشروعها هي رحيل أفرادها من الانتهازيين والوصوليين عن مراكز صنع القرار، ولا سيما أن هذه الفئات المنحرفة عاجزة عن فهم نفسية الشعب الأردني الذي يمهل ولا يهمل وهي فاقدة التصور الصحيح لتاريخه وتراثه وتضحياته والمستقبل الذي يطمح إليه.
إن ذكرى استشهاد هزاع اليوم هي ذكرى غالية وعزيزة علينا، وهي جزء من تاريخ الأردن ومواقف وتضحيات وبطولات الكثير من زعمائه فالذاكرة الأردنية مليئة بالأسماء من أمثال هزاع المجالي وأذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض الأسماء التي لها وقع في الذاكرة الأردنية من أمثال حسين الطراونة وعودة أبو تايه وتركي كايد عبيدات وعبدالله التل وماجد العدوان ومثقال الفايز وكليب الشريدة وناجي العزام ورفيفان المجالي وعلي نيازي التل وصايل الشهوان وحديثه الخريشه ومنصور القاضي وطاهر أبو السمن وسعيد أبو جابر وحمد الجازي وقاسم الهنداوي وسليمان الروسان وظاهر الفايز ووصفي التل وعضوب الزبن وصيتان الماضي وملحم التل وفيصل الدغمي وغيرهم من رجالات هذا الوطن الذين تبقى أسماؤهم ومواقفهم حية في الذهن والذاكرة، وعلينا أن نجعل من مناسبة رحيل كل منهم يوماً مباركاً نستلهم فيه مسيرتهم ومواقفهم فنستخلص العبر والنتائج وتتحول ذكرى رحيل كل واحد منهم إلى منطلق جديد في معركة البناء والتحديث بقلوب يملؤها الإيمان والمحبة والاطمئنان إلى منجزات الحاضر واستشراف مستقبل مليء بالأمل والرجاء بحيث لا تتيه بنا سبل التشتت والضياع، وهذه أمانة يجب أن نحفظها لهذا الجيل الذي سبقنا حتى ينصفنا الجيل الذي سيلينا.
هذه عناوين عامة وسريعة نتناولها بمناسبة الذكى الخمسون لاستشهاد هزاع المجالي، والحقيقة أن مواقف ورؤى وأفكار هزاع تحتاج إلى كثير من الجهد والوقت كما أن سيرة حياته فيها الكثير من المواقف الوطنية والإنسانية، ونحن لا نريد أن نزيد أو نزايد ولكن نقول إن اعادة قراءة فكر هزاع ومواقفه وتجربته في الحكم والمعارضة أموراً في غاية الأهمية ولا سيما في ظل ما تعانيه هذه الأيام من تغول السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائيه وضعف المجالس النيابية ومؤسسات المجتمع المدني وانتشار الفساد والمحسوبية واحتكار السلطة وتوريثها من قبل فئات معينة وأخيراً عدم احترام حقوق الإنسان وفي مقدمتها الحق في حرية التعبير وانتقاد المسؤولين دون خوف أو تررد ودون التعرض للمسائلة أو التهديد بالتحويل إلى المحاكم الخاصة..
وبعد مرور خمسون عاماً من استشهاد هزاع المجالي فإن عزاءنا أن أنجال الشهيد أمجد وأيمن وحسين هم بيننا تتجدد فيهم روح الفداء والتضحية وخدمة الوطن والشعب والقائد جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين حفظه الله وارث رسالة النهضة العربية الكبرى الذي يولي قضايا الأمة وفي مقدمتها قضية فلسطين جل وقته ويؤكد على قيم الإسلام السمحة التي تنبذ العنف والتطرف والإرهاب ويواصل مسيرة بناء الأردن الحديث وإنشاء دولة القانون والمؤسسات وبناء مجتمع العدالة والمساواة. الرحمة والخلود لشهيدنا دولة السيد هزاع المجالي وطول العمر وموفور الصحة لأنجاله من بعده، أكرر المجد والخلود لكل شهداء الأردن وختاماً قال تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية وادخلي في عبادي وادخلي جنتي} صدق الله العظيم.