لم يكن القوت اليومي في ما مضى رغم كل الظروف السياسية والاقتصادية التي كانت تعصف على منطقة الشرق الأوسط بشكل عام ومنطقتنا بشكل خاص ، إثر الحروب والأزمات المتواترة عليها والتي كانت مليئة بالتوترات والأحداث السياسية ، وانعدام الاستقرار الأمني والاجتماعي .. فلم يكن حينها القوت اليومي \" لقمة الطعام \" هي المنال الوحيد للعيش بسلام ، ولم تكن هيّ الشغل الشاغل الذي يشغل فكر المواطن وكان يفني كل طاقاته الجسديه من أجل متعة الطعام ورشاقة الجسم .. بل على العكس من ذلك فمتطلبات الحياة الآنية من مأكل ومشرب وملبس كانت في متناول اليد ولا تحتاج إلى عناءٍ كبير للوصول إليها ، وما كان يشغل الناس حينها هو أبعد من ذلك بكثير ، فكان الهم الوطني والاستقرار الأمني ، ومستقبل آمن للأجيال القادمة يخلو من كل التوترات السياسية والاجتماعية يأخذ الشق الأكبر من فكرهم ، فالحاضر كان آمناً لا خوف عليه ، أما المستقبل هو ما كان ولا زال يحتاج إلى تضحيات جسام من أجل أن ينعموا هم وأجيالهم القادمة بمتعة الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي ..!!
أذكر ونحن في ريعان الشباب ، كثيراً ما كان يتردد في آذاننا من الأباء والأجداد مقولة \" خبي القرش الأبيض لليوم الأسود \" ، كنا قليلاً ما نفهم معنى هذه المقولة .. بل كان غرور الشباب دائماً يأخذنا نحو مقولة \" اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب \" .. إلى أن وعينا قليلاً على الحياة ، والمستقبل الذي كان فيما مضى لا نكترث له ، باغتنا وأصبح حاضراً بكل همومه ومتطلباته ، وأقبلنا على أعتاب المسؤولية وما فيها من متطلبات جمة لا حصر لها ، تحتاج إلى كثير من الكدّ والتعب المتواصل لتغطية أجزاء يسيرة من نفقاتها ، فحينما كان الزواج \" فرشه ولحاف \" والتعليم وكأنه \" بالمجان \" أصبح الآن يأكل الأخضر واليابس للوفاء بالتزامات الزواج أو تدريس أحد الأبناء في جامعاتنا الآن ، وفضاء السكن الذي كان يملأه الهواء النقي والفراغ أكثر مما تملأه الحجارة والأثاث بات لا يعجبنا ، وأصبحت الآن اقرب وصفاً من القبور المكتومة الأنفاس التي لا تزيد مساحتها عن حجم الانسان .. بل لم نكتفي إلى هذا الحدّ من المبالغة ، وتعدينا إلى أبعد من ذلك بكثير ، بعنا ما فوقنا وما تحتنا من أجل رفع البنيان وتعظيمه والتفاخر به ، لتذهب أموالنا وترص بأكوامٍ من الحجارة فوق بعضها ، ونحن نعلم أن هناك العديد من أسرنا الأردنية تحتاج إلى ما يسد رمق أطفالها من القوت اليومي وأن العديد من أبناءها الذين استهلكوا أغلب موازنة اسرتهم من أجل التعليم ، ينتظرون الخروج من بوتقة \" العاطلين عن العمل \" والمساهمة ولو بالحدود الدنيا من رفع بعضاً من المسؤوليات الجسيمة عن كاهل الوالدين الذين أنفقوا ما يملكون من أجل تعليمهم وتربيتهم ..!!
أما وقد عاصرنا نحن الأربعينيون هاذان الزمانان ، ولمسنا الفارق المعيشي بينهما ، زمن الأحداث والتوترات الذي كان وما اكتنف أيامه من قهر وجوع ، لم يمنعهم من ادخار \" القرش الأبيض \" لأيام أشد سوءً وسواداً من أيامهم تلك .. أما زمن الأمن والاستقرار الذي نعيشه الآن ، هو ذات الزمن الذي ادخروا \" قرشهم الأبيض \" لأجله ، وكأن بهم كانوا يعلمون أنه ستكون هناك أياماً سيكونون بها أشدّ حاجة لهذا \" القرش الأبيض \" ، وهذا ما يحصل في أيامنا التي نعيشها الآن ، ما كان قد ادخره الأجداد والأباء من قروش بيضاء قد أكلتها نيران الغلاء التي طالت أغلب مجالات الحياة ولم يبقى منها ما يمكن أن ندخره لمستقبل قادم ، وقوتنا اليومي هو همنا الأكبر ، نلهث خلفه كالوحوش إلى أن طال لهاثنا القرش الأبيض والأسود معاً ..!! akoursalem@yahoo.com م . سالم أحمد عكور