على غير ميعاد ، و بينما كنت مغادرا ربوع الصبا و الشباب إلى غير عودة خلسة دون أن أودع رفاق عمري المستضعفين في الأرض كما ودع هرقل بلاد الشام قائلا "وداعا يا سوريا .. وداعا لا لقاء بعده" التقيت شاعر الغربة و لسان المظلومين (أحمد مطر) متخفيا تحت لافتة من لافتاته ، فقرأت ما كتب عليها :
يشتمني ويدعي أن سكوتي معلن عن ضعفه ،
يلطمني ويدعي أن فمي قام بلطم كفه ،
يطعنني ويدعي أن دمي لوث حد سيفه ،
فأخرج القانون من متحفه ،
وأمسح الغبار عن جـبـيـنـه ،
أطلب بعض عطفه ،
لكنه يهرب نحو قاتلي وينحني في صفه ،
يقول حبري ودمي : " لا تندهش ،
"من يملك القانون في أوطاننا ، هو الذي يملك حق عزفه
وضعوني في إناء ،
ثم قالوا لي تأقلم ،
وأنا لست بماء ،
أنا من طين السماء ،
أنا من روح السماء ،
وإذا ضاق إنائي بنموي يتحطم ،
خيروني بين موت وبقاء ،
بين أن أرقص فوق الحبل، أو أرقص تحت الحبل ،
فاخترت البقاء : قلت أعدم ،
قلت أعدم ،
فاخنقوا بالحبل صوت البـبـغاء ،
وأمدوني بصمت أبدي يتكلم
نافِـقْ
ونافِـقْ
ثمَّ نافِـقْ ، ثمَّ نافِـقْ
لا يَسلـَمُ الجسد النحيلُ من الأذى
إن لم تـُـنافِـقْ
نافق
فماذا في النفاقْ
إذا كذبت وأنت صادقْ ؟
نافقْ
فإن الجهل أن تهْوي
ليرقى فوق جثتك المنافقْ
لك مبدأ ؟ لا تبتئسْ
كن ثابتا
لكن بمختلف المناطقْ
واسبق سواك بكل سابقة
فان الحكم محجوز لأرباب السوابقْ
عندها قال لي (أحمد مطر) : و بماذا أجبتهم ؟ قلت له : أجبتهم بما حفظته من لافتتك قبل ستة عشر عاما :
هذي مقالة خائف ٍ ،متملقٍٍ متسلقٍ
ومقالتي : أنا لن أنافقْ
حتى ولو وضعوا بكفـّي
المغارب والمشارقْ
يا دافنين رؤوسكم مثل النعام
تنعموا
وتنقَّـلوا بين المباديء كاللقالقْ
ودعوا البطولة لي أنا
حيث البطولة باطل
والحق زاهقْ
هذا أنا اجري مع الموت السباق
وإنني ادري بأن الموت سابقْ
لكنما سيظلُّ رأسي عاليا أبدا
وحسبي أنني في الخفض شاهقْ
فإذا انتهى الشوط الأخير
وصفـّـق الجمع المنافقْ
سيظل نـَـعْـلي عاليا
فوق الرؤوس
إذا علا رأسي
على عُـقــد المشانقْ
أنا من تراب وماء،
خذوا حذركم أيها السابلة،
خطاكم على جثتي نازلة ،
وصمتي سخاء ،
لأن التراب صميم البقاء ،
وأن الخطى زائلة ؛
ولكن إذا ما حبستم بصدري الهواء ،
سلوا الأرض عن مبدأ الزلزلة ،
سلوا عن جنوني ضمير الشتاء ،
أنا الغيمة المثقلة ،
إذا أجهشت بالبكاء ،
فإن الصواعق في دمعها مرسلة ؛
أجل إنني أنحني فاشهدوا ذلتي الباسلة ،
فلا تنحني الشمس إلا لتبلغ قلب السماء ،
ولا تنحني السنبلة
إذا لم تكن مثقلة ؛
ولكنها ساعة الإنحناء ،
تواري بذور البقاء ،
فتخفي برحم الثرى ثورة مقبلة ؛
أجل إنني أنحني تحت سيف العناء ،
ولكن صمتي هو الجلجلة ،
وذل انحنائي هو الكبرياء ،
لأني أبالغ في الإنحناء ،
لكي أزرع القنـبـلة
المهندس هشام خريسات