كثيرا ما نسمع ونقرأ عبر الشعارات السياسية عن ضرورة رفع الوصاية عن الجامعات! وهذا المطلب يتردد في الخطاب الاعلامي والسياسي لحزب جبهة العمل الاسلامي ،وقد ورد ضمن مطالبها للرجوع عن قرار مقاطعة الانتخابات النيابية، كما يتردد في البيانات النارية التي تتحفنا بها (ذبحتونا) التابعة لحزب الوحدة الشعبية، وبطبيعة الحال الشعار أو المطلب هذا مطاط وحمّال أوجه ،وأعتقد أن مقاربة سريعة له تنتج أطروحة مفادها المطالبة بأن تشرع الدولة أبواب الجامعات الأردنية أمام العمل الحزبي والتنظيمات السياسية لتمارس العمل السياسي داخل الصروح التعليمية ،وأن تمنحها الحرية في الحركة والتنظيم والتجنيد بين الطلبة ،وتتيح لها السيطرة على مايسمى في الأدبيات الحزبية (الشارع الطلابي)، وتوجيه العملية الانتخابية الطلابية لصالح التسييس الكامل ، والهيمنة الحزبية الكاملة على الأنشطة الطلابية والجامعية وتوجيهها لخدمة الأغراض والبرامج الحزبية،ولامانع من الهيمنة على الإدارات الجامعية وأعضاء الهيئات التدريسية أيضا ،فهذا يوفر بيئة صديقة للتجنيد الحزبي في صفوف الطلبة،مما يوفر موارد بشرية شابة تعيد للعمل الحزبي شبابه وتجدد الحياة فيه،وتعوضه عن الفشل في التجنيد والكسب في صفوف الفئات العمرية والشرائح الاجتماعية الأخرى! وهذا كله يهيء أجواء ديمقراطية مثالية تتيح المجال واسعا أمام التنمية السياسية لتأخذ مداها الكامل!!
هذه أطروحة قوى المعارضة الأيديولوجية بشأن (رفع الوصاية عن الجامعات)! وهي أطروحة تنسجم في نظر أصحابها مع معايير الديمقراطية ومتطلبات التنمية السياسية،وتحقيقها يؤشر على احترام رسمي حقيقي للحريات العامة،ويؤكد حسن نوايا الدولة تجاه العمل الحزبي!وهذه الأطروحة تتضمن التشهير بالتعليم العالي في بلادنا،والعمل على تسويد وجه جامعاتنا وتصويرها على أنها باستيلات أو معتقلات!كما يتضمن الهجوم على مايسمى العقلية العرفية التي تدير الجامعات الأردنية ! مترافقا هذا مع التنديد المستمر بالعشائرية وتحميلها أوزار الأمة كلها!والتعريج المتكرر على مايسمى استثناءات القبول أي المكارم الملكية لأبناء الشهداء والعسكريين والمعلمين وطلبة المناطق النائية الأقل حظا في البوادي والأرياف والمخيمات!؟
هذه هي الأطروحة،لكن هل هي صحيحة ؟أم نحن أمام أغلوطة؟وهل نحن أمام هم وطني عام؟ أم أمام مصالح حزبية ضيقة؟الغريب أن هؤلاء ينادون بالديموقراطية، لكنهم يمتلكون رؤيتهم الخاصة للديمقراطية الأحادية أو الديمقراطية المقدسة،ويرفضون النتائج النهائية للانتخابات الطلابية ويدينونها بشدة إذا لم تتح لهم السيطرة على الإرادة الطلابية،ومصادرة الرأي الآخر،واحتكار العمل الطلابي ،وجعله منغلقا على رؤية أحادية ضيقة تحتكر العمل الطلابي والأنشطة الطلابية وتعزلهما عن البيئة الوطنية الأردنية،وتصبغهما برموز ودلالات كلها خارجية مؤدلجة لاتحاكي الاحتياجات الطلابية ولاتلائم البيئة الأردنية!بل تزيد في تجهيل الطلبة بالشؤون الوطنية،وتمعن في تهميش الثقافة الوطنية الأردنية!
هذه الأطروحة تنسجم مع تاريخ طويل لهذه الأحزاب في التعاطي مع العمل الطلابي في الجامعات الأردنية بوصفه مجرد رافعة للعمل الحزبي، وقد تركت هذه الأحزاب بصمتها على العمل الطلابي،وأثرت في مسارات الحركة الطلابية، وفي تحديد أهدافها ومنطلقاتها وبرامجها، بحيث برز العمل الطلابي في مرحلة ما ذا لون سياسي يتجاهل الهوية الوطنية الأردنية والشأن الوطني الأردني؛ليتبنى كل الهويات إلا الهوية الوطنية الأردنية،ويحتفي بكل المناسبات إلا المناسبات الأردنية ،ويهتم بكل الثقافات إلا الثقافة الأردنية، إلى الحد الذي جعل العمل الطلابي في لحظة من اللحظات يعيش حالة من الاغتراب،حتى بات مراعاة البعد الوطني الأردني، أو ملامسة الهموم الأردنية، أو حتى ابراز رموز الدولة الأردنية، أوالتعبير عن الانتماء للأردن والولاء لقيادته يعد شكلا من أشكال الإقليمية والعنصرية والانعزالية والنفاق! وبات المراقب للعمل الطلابي في مراحل كثيرة يلمس أن جميع الهويات والقضايا حاضرة في جامعاتنا باستثناء الأردنية منها.
من المؤكد أن هذه الأطروحة شيء مختلف تماما عن المطالبة بتطوير التعليم العالي وتحديثه باعتباره يشكل رافعة أساسية من روافع النهضة الأردنية الشاملة. وهذا يزيد في قناعتنا بأن الوطن في أمس الحاجة لأحزاب وطنية برامجية تهتم بالمصلحة الوطنية العليا ،وتنتمي شكلا ومضمونا للدولة الأردنية ولا تعد نفسها نقيضا لها،كحاجته لجماعات ضغط صديقة للتعليم العالي تسنده وتدعمه،وتدعم الحريات الأكاديمية،وتتفهم حاجة الجامعات لتطوير برامجها الأكاديمية والتدريبية وتعزيز قدراتها في البحث العلمي وخدمة المجتمع ،وحماية البيئة الجامعية من العبث السياسي والأيديولوجي والعنف والآفات الاجتماعية.
والسؤال المطروح هنا ؛لما كانت هذه الأحزاب ترفض ما تسميه الوصاية على الجامعات وتنادي برفعها ،فما هي رؤية هذه الأحزاب لجامعات أردنية بلا وصاية؟وما هو شكل البيئة الجامعية التي ترتضيها؟ وماهو مفهومها المشترك للحريات العامة والشخصية داخل الحرم الجامعي؟وما هو فهمها المشترك للعمل الطلابي ؟ وماهي رؤيتها لطبيعة عمل الهيئات الطلابية وأهدافها ووسائلها وأنشطتها؟ واين برنامجها ؟على أن يأتي هذا كله في إطار الحرص على استقلالية الجامعات ،وفي إطار التعاطي معها بوصفها صروح علم ومعرفة،تتولى التعامل مع رأس المال الوطني الحقيقي المتمثل في الموارد البشرية،كل هذا يتوجب أن يأتي في إطار الالتزام بقانون الأحزاب الذي يمنع تسخير المؤسسات التعليمية لخدمة الأغراض الحزبية، وفي إطار الخروج من العقلية الشمولية التي تنظر للجامعات بوصفها مجالا حيويا للعمل الحزبي،بما يتناقض مع الأعراف والتقاليد العالمية التي ترسخ الصبغة الأكاديمية للجامعات،بعيدا عن المعارك السياسية والاجتماعية ،مع الحرص التام على أن تكون الجامعات جزءا أصيلا من مؤسسات الدولة،بل في القلب منها،إنسجاما مع السياسات العامة للدولة،فالجامعات هي عقل الدولة وضمير المجتمع،لكنها بالتأكيد ليست سوق عكاظ جديد!
*أكاديمي أردني
Bassam_btoush@yahoo.com