زاد الاردن الاخباري -
سنة تمضي بمرها وحلوها وأخرى تأتي بآمالها ومخبآتها، إنها حركة الزمن الدائبة، ولا شيء يمكن أن يكون خارج الزمن. كل كلام عن الزمن يؤدي بالضرورة إلى الكلام عن الوعي بهذا الزمن وبوجودنا في خضمه. وقد مرت أحداث على عالمنا العربي خلال السنة المنصرمة بعضها جلي وأغلبها ملتو وخفي، وهي تحتاج إلى وقفة الراصد والمحلل المتبصر والمفكر المتعمق.
للوقوف على بعض المسارات العربية وفهم مستغلقاتها حاور مركز الجزيرة للدراسات المفكر العربي برهان غليون، مدير مركز الدراسات العربية والشرق المعاصر، وأستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة السوربون بباريس، للوقوف على بعض تصوراته الفكرية وتحليلاته الإستراتيجية حول جملة من مواضيع الساعة.
العرب وجيرانهم ...
كيف تفسرون الحضور التركي المتنامي في المنطقة، بما في ذلك في الرقعة العربية؟
- تركيا اليوم دولة فاعلة والدولة الفاعلة تجذب غيرها تماما كما يجلب النجاح الشهرة والجاه. وهكذا بعد عزلة طويلة عن محيطها، دفعتها إلى الالتصاق بالكتلة الغربية، قبل أن تتحول إلى حليف إستراتيجي لإسرائيل، عادت تركيا إلى بيئتها الجيوسياسية الطبيعية وأخذت تلعب دورا متميزا في شؤونها السياسية والإستراتيجية والاقتصادية.
والسبب الذي جعل منها دولة فاعلة تجذب إليها الدول المحيطة بها أو المحتاجة لمساعدة أو دعم خارجيين، العربية منها وغير العربية، أنها نجحت في حل مشاكلها الداخلية، الثقافية والسياسية، ونجحت في سياستها الاقتصادية. فتركيا تحصد اليوم ثمرة الجهود التي بذلتها في العقدين الماضيين لإرساء أسس الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية، الصناعية والتقنية والعلمية، ومن وراء ذلك مصالحة تركيا مع تاريخها وثقافة شعبها وتراثه. هكذا نجحت في تجنب وتجاوز الحرب الأهلية المعلنة أو الكامنة التي عاشتها وتعيشها البلدان العربية، بين الإسلامية والعلمانية والتي تمزق الرأي العام وتشتت النخب الثقافية والسياسية وتحرم المجتمعات من تكوين أي إجماع وطني، أو حتى أغلبية سياسية يمكن من خلالها إقامة نظام سياسي مستقر قائم على أسس ثابتة من الشرعية الدستورية.
وبدأت أنقرة، التي كانت أعظم حليف إقليمي عسكري وسياسي لإسرائيل خلال عقود طويلة سابقة، تشعر بمسؤوليتها تجاه مشاكل المنطقة ونزاعاتها. فناهضت سياسات إدارة بوش العدوانية، واستفادت من علاقتها التقليدية بتل أبيب من أجل فك العزلة السورية والسعي إلى تحقيق تسوية تضمن عودة الجولان المحتل، وعبرت أكثر من مرة عن دعمها لحقوق الشعب الفلسطيني واستعدادها للعب دور في أي تسوية سياسية. وأدانت الحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة عام 2008. ولم يتردد وزير خارجيتها في زيارة غزة ثم في إلغاء أنقرة المناورات العسكرية المشتركة التي كانت تجري، مع الجيش الإسرائيلي، على حدود سورية الشمالية. ولا يترك زعماء تركيا العدالة والتنمية مناسبة من دون أن يظهروا اهتمامهم بمصير منطقتهم وحرصهم على المساعدة في بسط الاستقرار والسلام فيها. وهم يحققون بسبب ذلك مكاسب إستراتيجية واقتصادية وسياسية وثقافية متواصلة لا تحلم بها أي من الدول العربية الرئيسية. فتركيا تحصد اليوم ثمار عملها لأنها عملت أولا ولأنها تظهر بالملموس التزامها بمنطقتها ومقدرتها على حمل المسؤولية، أي قبول بعض المخاطر والتضحيات لصالح تحقيق الاستقرار في منطقتها ومحيطها، بينما لا تكف الأقطار العربية عن تمنين بعضها البعض أي جهد تبذله هذه أو تلك لدعم قضية من القضايا القومية.
في مقابل هذا الصعود المتنامي للدور التركي يلاحظ تراجع مريع في الدور العربي بما في ذلك في مجاله الحيوي، فما السبب في ذلك؟
- هذه هي النتيجة الطبيعية أيضا لإخفاق العرب في إنجاز المهام الثلاث التي نجحت تركيا في أيجاد حل مناسب لها، ضمن لها الاستقرار والتقدم المضطرد والهامش الكبير من الاستقلال والمبادرة الخارجية. فبينما كانت تركيا تجرب وتطور سياسات جديدة تماما، داخل تركيا وتجاه المنطقة المحيطة بها، العربية وغير العربية، بقيت الأقطار العربية، وبلدانها المركزية في المقدمة، ندور في الحلقة المفرغة ذاتها، وتعجز عن الخروج من المآزق الفكرية والسياسية والاقتصادية التي وضعت نفسها فيها، وتهرب من متطلبات الإصلاح بإغلاق أشد لمنظومات الفكر وللنظم السياسية وللمبادرات الاقتصادية. وبالإضافة إلى الفخ الذي نصبناه لأنفسنا في الخمسينات والستينات حول الهوية القومية والهوية الوطنية والمفاضلة بينهما، وحول نمط الوحدة المطلوبة قومية مركزية أم اتحادات إقليمية، أدخلت النخب العربية المأزومة الرأي العام في فخ الاختيار بين الهوية الإسلامية والهوية العربية أو القطرية، وصار محور جهدنا موجه لتمييز الدولة الإسلامية عن الدولة العلمانية والعكس، أي للمماحكات النظرية والسياسية. ولا تزال النزاعات بين العلمانيين والإسلاميين تفتت، منذ أكثر من ثلاثة عقود، الجمهور العربي وتمنع من قيام أي إجماع وطني، أو أغلبية سياسية تسمح بإقامة نظام سياسي يحظى بالشرعية ويحسم نهائيا أزمة التداول على السلطة، أي الاتفاق على قاعدة واضحة، هي بالضرورة الديمقراطية. ولذلك بقي الحكم عندنا من حظ الأقوى والأكثر مقدرة على الغش والخداع والتفاهم مع القوى الخارجية.
لقد همشت الدول العربية المركزية التي كان من الممكن أن تلعب دور استقطاب للدول الأصغر نفسها بمقدار ما راوحت في مكانها في القضايا المحورية، من قضية التنمية واستغلال فرص الاندماج الإقليمي، إلى قضية الديمقراطية وبناء إطار قانوني واضح لتداول السلطة وممارستها على جميع الأصعدة، إلى قضية التفاعل الايجابي مع حاجات محيطها وتقديم يد المساعدة للشعوب المنكوبة فيه، وفي مقدمها قضية الاحتلال للأراضي العربية، وتقرير مستقبل الشعب الفلسطيني.
ويكفي في هذا المجال أن نقارن على سبيل المثال بين خيارات السياسة الخارجية التركية، وقد ذكرنا أهمها فوق، وخيارات مصر ما بعد الناصرية، وهي الدولة العربية الأكبر والأم، لنعرف أسباب التفاوت في دور البلدين. وربما كان المفتاح لفهم الفارق الحاسم بين هذه الخيارات موقف كل من البلدين من المساومة على سياسته الإقليمية. فبينما حرصت مصر، لقاء تنازلات مستمرة عن مسؤولياتها الإقليمية، وهذا مطلب رئيسي أمريكي إسرائيلي، وتقوقعها على حدودها ومصالحها القطرية، على ضمان استمرار المعونة المالية الأمريكية التي حصلت عليها ثمن توقيعها اتفاقات كمب ديفيد وفرطها التحالف العربي، وهي لا تتجاوز ملياري دولار، رفض البرلمان التركي عرض الولايات المتحدة مبلغ عشرة مليارات دولار للسماح لها باستخدام أراضيها في حربها ضد العراق عام 2003 ، من دون أن تستطيع واشنطن التأثير على أنقرة أو ثنيها عن قرارها. وكان هذا الرفض تأكيدا لإرادة الاستقلال التركي الذي سيكون رأسمال أنقرة الرئيسي في مبادراتها الإقليمية في السنوات القليلة الماضية التي شهدت تصاعد دورها ونفوذها. لكن حتى عندما رفضت أن تساوم على استقلال قرارها، لم يمنعها هذا الموقف من الاستمرار في طلب الاندماج في الاتحاد الأوروبي والتعامل الايجابي مع الغرب عموما وتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة. بينما نحن نخضع للأمريكيين والغربيين عموما ونشتمهم في الوقت نفسه فنخسر على الجبهتين. والواقع أن من الصعب فصلَ خيار أنقرة الاستقلالي والسيادي عن الخيارات الديمقراطية الداخلية للنخبة السياسية التركية على مختلف مشاربها.
ليس هناك إذن أي سر في تراجع دور الدول العربية الرئيسية التي كان يعول عليها لإعادة بناء المنطقة العربية وإدماجها، مثل مصر والسعودية وسورية وغيرها، وانحسار نفوذها جميعا في المنطقة، ما خلا ما تحقق بالقوة والقهر، وفي المقابل تقدم تركيا وتنامي دورها في الشرق الأوسط والعالم العربي خاصة. فمعظم الدول العربية اختارت التفريط بالاستقلال والسيادة للحفاظ على دعم الولايات المتحدة وأوروبة .
ما هي نظرتكم للعلاقات العربية الإيرانية؟ وهل إيران صديق يعتمد عليه أم أنها عدو يخشى منه؟
- كان من الممكن أن تكون إيران الإسلامية ظهيرا كبيرا للعرب في مقاومتهم للسياسات الاستعمارية وشبه الاستعمارية ومشاريع الاستيطان والتوسع الصهيونية. إلا أن مواقف إيران التي تصب في صالح العرب قد تحولت إلى وسيلة إضافية لتعميق الانقسام العربي بمقدار ما فشل العرب في فهمها والتعامل الإيجابي معها من وجهة نظر عربية. فبسبب افتقار العرب لأجندة قومية أو إقليمية، حتى في مواجهة عدوان الدولة الصهيونية وحروبها، ظهرت السياسة الإيرانية المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني كما لو كانت وسيلة ضغط كبيرة على بعض الدول العربية اليائسة أو المنسحبة والمنكفئة على نفسها، بينما وجدت دول عربية أخرى في التحالف معها وسيلة لتعزيز موقفها تجاه نظيراتها العربيات وتحديهم والمزايدة عليهم.
باختصار، إن سيطرة الانقسامات والحروب داخل الصف العربي وبين أقطاره وغياب أي أجندة قومية عربية مشتركة، لم يمنعا العرب فقط من الاستفادة من رصيد الدولة الإيرانية الذي صب في صالحهم بعد أن كان في حساب الدولة الصهيونية، وإنما حولا هذا الرصيد الايجابي ذاته إلى لغم يفخخ بشكل أكبر العلاقات العربية-العربية ويغذي الحروب الدائمة في ما بينها. وليست إيران هي المسؤولة عن ذلك إنما الدول العربية: المعتدلة التي صارت ترى في السياسات الإيرانية الجديدة إحراجا لها بعد تخليها عن فكرة المواجهة مع إسرائيل ومراهنتها الإستراتيجية على المفاوضات السياسية، والممانعة التي استخدمت الرصيد الإيراني لتزيد في أوراق ضغطها على البلاد العربية الأخرى لتحقيق مصالح سياسية ضيقة. وهذا ما عمق الشرخ القائم بين المحاور العربية وأراح إسرائيل وجعلها تتفرغ للقضاء على القضية الفلسطينية ومستقبل شعبها في ظل الحرب العربية العربية التي أصبحت العلاقات مع إيران أحد أهم محاورها وجبهاتها.
هذا يعني: لن تصبح إيران وسياساتها المعادية لإسرائيل والغرب رصيدا للقضية الفلسطينية والعربية إلا عندما يتفاهم العرب على أجندة واحدة في القضايا الإقليمية ويكفوا جميعا عن استخدام إيران كفزاعة أو كقوة حليفة، في صراعاتهم الداخلية، الأهلية والمابين عربية.
مكانة العرب في الكثير من التقارير المتعلقة بالتنمية الاقتصادية أو البحث العلمي متدنية إلى أقصى حد فهل تعطي هذه التقارير صورة دقيقة عن الأوضاع العربية أم أنها تميل إلى الانتقاء؟ وإن كان تشخيصها دقيقا فما سبب هذا الفشل العربي؟
- ليست التقارير مهما بلغت من الدقة تصويرا طبق الأصل للواقع، وليس هذا هو مطلوب منها. إنها تقدم مؤشرات مبنية على وقائع نسبية، لكن صادقة أيضا بمقدار ما يعتمد في رسمها على طرائق الرصد والملاحظة والتحليل العلمية. وفي اعتقادي أن الاتجاهات التي تدل عليها هذا التقارير وتبينها المؤشرات التي استخدمت فيها صحيحة وليست مبالغا فيها.
بل إنا أعتقد أن وضع العالم العربي أسوأ مما تقوله التقارير، لأن الكثير من التقارير التي تهتم كثيرا بالأرقام الإحصائية تبقى على السطح ولا تستطيع أن تنفذ إلى الديناميكيات العميقة التي تعمل داخل المجتمعات. وفي نظري إن أزمة المجتمعات العربية تتجاوز حاصل جمع الأزمات الاقتصادية والسياسية والوطنية والفكرية، وتمتد في العمق إلى الأساس الذي تقوم عليه، أي إلى ما يجمع بين أفرادها ويحولهم من غبار أو ذرات متجاورة إلى عضوية حية ويجعل لهم قلبا وإرادة ووعي يسيرونهم ويوجهونهم ويوحدونهم فيصبح بإمكانهم عندئذ بلورة سياسات ووضع خطط للمستقبل ومواجهة التحديات وحل الأزمات والمشاركة في تقرير مصيرهم. هذه اللحمة أو الاسمنت الذي يجمع ذرات الأفراد بعضها إلى بعض ويؤلف منها مجتمعا حيا متضامنا ومتفاعلا وفاعلا، أي منتجا ومبدعا، تكاد تكون اليوم غير موجودة أو هي في طريق الانحلال نهائيا تاركة الأفراد من دون سند ولا رؤية ولا مقدرة على التوجه في الواقع والمستقبل. هذا يعني أن الأزمة سوف تستمر وتتفاقم، ومعها الأرقام والمؤشرات التي لا يستطيع التقرير رصد احتمالات نموها وزيادة سوئها. وأنا لا أعتقد أن هناك حلا في الأفق المنظور للفوضى الفكرية والعقدية التي تعيشها الشعوب العربية.
وفي اعتقادي أيضا أن السبب الرئيسي لهذا الوضع الذي وصلت إليه المجتمعات العربية هو الانحطاط الرهيب الذي أصاب النخب الاجتماعية، والسائدة منها بشكل خاص، نتيجة عقود طويلة من سياسة العسف وتقييد الحريات والحجر على التفكير وتخريب العقول وحكم الشعوب بالتخويف والإرهاب، وإكراهها على الانكفاء على ما يشبه الأوكار التي حلت محل الأوطان. وهو ما ساهمت فيه قوى متعددة، عربية وأجنبية، كان لها ولا يزال مصلحة في تهميش الشعوب العربية وإخماد جذوة تفكيرها وكفاحها، وإعادتها، كما قيل أثناء الحرب الأمريكية العراقية، إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية. وليس ضمان وجود إسرائيل وتوسعها وتأمينها على نفسها ومستقبلها بعيدا عن هذا الذي جرى ولا يزال يجري. وقد حصل ما يشبه ذلك في المرحلة الأولى من تأسيس إسرائيل حيث كان غض النظر عن قيام إسرائيل واستيطانها هو الثمن الرئيس لتكريس النخب في مواقع الحكم وتأمينها على نفسها واستقرارها.
لكن جميع ما ذكرت لا يغير من واقع أن المسؤولية السياسية في استمرار التدهور في شروط حياة المجتمعات العربية ومواقعها الإقليمية والدولية تقع قبل أي فرد آخر على النخب العربية الحاكمة. فهي التي تحافظ على الوضع القائم وتدافع عن إعادة إنتاجه وتقمع أي فكرة أو حركة تهدده أو تسعى لتغييره، ضمانا لمصالحها الخاصة وحماية لها.