القرآن في السديم المعجمي ، من قرأ قراءة وقرآنا ، تتبع كلماته نظرا ونطق بها أو تتبع كلماته ولم ينطق بها ، والقرآن في الأصل ، مصدر نحو كفران ورجحان ، وصار القرآن لمحمد كالعلم ، كم أن التوراة لما أنزل على موسى ، والإنجيل على عيسى ، عليهم السلام ، وتسمية هذا الكتاب قرآنا من بين الكتب السماوية ، لكونه جامعا لثمرة كتبه ،بل لجمعه ثمرة جميع العلوم ، ومما قيل في معنى القرآن عند أهل العلم ، الجمع ، وسمي قرآنا لأنه يجمع السور فيضمها ، وذكر ابن الأثير قوله : تكرر في الحديث ذكر القراءة والاقتراء والقارئ والقرآن والأصل في هذه اللفظة هو الجمع ، وكل شيء جمعته فقد قرأته ، وسمي القرآن لأنه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد ، والآيات والسور بعضها إلى بعض ، ومن هذا الباب القروء والأقراء والقَرْءِ وهو جميعه عند أبي إسحاق بمعنى الجمع .
والقرآن اصطلاحا ، ومعنى اصطلاحا ، أنّ اللفظة اكتسبت معنى جديدا في زمن ما ، مع بقاء أواصر قربى بينها وبين المعنى اللغوي ، القرآن هو : كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، المكتوب في المصاحف ، والمتعبد بتلاوته ، أو هو : ذلك الكلام المنزل على محمد من عند بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ........... إلى آخر سورة الناس ، كما يمكننا إطلاق كلمة قرآن ، على كل آية في المصحف ، فأنت عندما تقرأ آية فقد قرأت قرآنا ،وليس للقرآن جمع أي أنّ كلمة قرآن لا تجمع بينما كلمة مصحف تجمع على مصاحف فالقرآن هو القرآن ، وجاءت كلمة قرآن عند القرطبي ، بمعنى المقروء ، كالمشروب يسمى شرابا ، والمكتوب يسمى كتابا ، واستشهد بقول الشاعر :
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ............. يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
بمعنى قراءة ، وقال الله تعالى : ( وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهودا ) بمعنى قراءة الفجر ، وقد وردت مادة القرآن في القرآن الكريم كثيرا ، تدبرت سياقها فوجدت أغلبها يشير إلى هذا الاسم الغالب المشهور لكتاب الله الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد خصه الله به ولم يطلقه على كتاب من كتبه السابقة ، وقد ورد حديث في القرآن : \" فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يَخْلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعى إليه هدى إلى صراط مستقيم \" .
وأمّا المصحف فهو تلك الأوراق أو ما شابه ذلك التي دوّن فيها ، لأن القرآن لم ينزل مكتوبا في مصحف وإنما نزل مسموعا على محمد صلى الله عليه وسلم كما هو في اللوح المحفوظ ، وتلاه محمد على صحبه كما سمعه ، ثم دون على الرقاع وسعف النخيل والعظم وما شابه ذلك إلى أن جمع بين دفتي مصحف ، ولفظ المصحف بالنسبة للقرآن هو بمثابة الوعاء الحافظ ، وقد اكتسبت بالقرآن صفة لازمة له حتى اكتسبت قداسة القرآن ، لأنها في الأغلب انحصرت به ، ولهذا لا يجوز مس المصحف للحائض ، أو الجنب على الأغلب عند الفقهاء ، فالقرآن والمصحف على الأرجح يتساوقان ولا يفترقان ، بل هما ذلك الكتاب المقدس الذي أنزل على سيد الخلق ، والقرآن يكتب في أكثر من مصحف فنقول مصاحف وصحف ، والمادة الموجودة فيها واحدة ، إذ لا يوجد مصحف يوناني ومصحف عربي ومصحف إفريقي ، لأن المادة واحدة ولكن الورق يختلف أو الحبر أو ما شابه ذلك ، بينما الكلام الموجود في جميع المصاحف واحد .
وعلى أية حال يجب علينا أن نفرق بين لفظ المصحف ولفظ القرآن ، أقول لفظ ، لأنه لو كان المقصود بالقرآن هو المصحف ، لما قال الله تعالى : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) فهل هذا يعني أننا لو أتينا بالمصحف ووضعناه على الجبل تشقق الجبل أو تصدع ، ليس الأمر كما يظن البعض ، إذن المقصود غير ذلك ، وللعلم فقد اختص الله كلمة قرآن في هذا الموقف بالذات ، وليس المصحف ، مما يدل دلالة واضحة على أن المصحف غير القرآن في مواطن ، أما لو نزل القرآن على الجبل فهل يستقر الجبل مكانه ؟لا وألف لا ، لأن الجبل حتما سيصبح عالما ، وإذا أصبح عالما ، تصدع من عظمة تجليات قدرة الله ، لأنه حتما سيفقه وإذا فقه علم وإذا علم خشي ، فالأشد خشية أشد تأثرا مما فيه من العلوم اللدنيّة ، التي لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا قل كل من عند الله ، والتنزيل هنا تنزيل وعي وإدراك لا تنزيلا ماديا كما هو الحال في المصحف ، لأنّ التنزيل الماديّ ليس من شرطه الإدراك والوعي والفهم والفقه والعلم ، وعلى أية حال فهذه ليست قضية خلاف بين العلماء ، لأنهما أي القرآن والمصحف يفترقان من باب ويتفقان من أبواب ، لأن القرآن على الخصوص والمصحف على العموم ، والله أعلم .
ولكن ما هو مثير للجدل في هذه الأيام هو قضية حرق المصحف ، أقول حرق المصحف وليس القرآن ، لأنّ القرآن لا يُحرق ، إذ كيف يحرق كلام الله ؟ فهذا شيء مستحيل ، وأعتقد اعتقادا جازما بهذا ،لأن الأصل هو كلام الله المحفوظ في اللوح المحفوظ ( في كتاب مكنون ) ، بينما إنقاذ الفعل لا يكون إلا في الماديات وهو المقصود بالورق والحبر المسطر في المصحف فلو حُرق مئة مصحف أو أكثر، هل هذا يعني أنّ القرآن قد انتهى من الوجود ، والجواب واضح لكل ذي عقل ، والسؤال الذي يطرحه الكثير، هل في حرقه شيء ؟
أقول وبالله التوفيق : الحرق له معنيان ، أو نيتان ، فإن كان الحرق من باب الحفاظ على قداسة آياته وعدم تعريضها لأماكن غير مستحبة فهو جائز ، بل هو الواجب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وإن كان الحرق من باب الإهانة أو التحقير أو التدنيس أو ما شابه هذه القرائن فهو كفر وخروج من الملّة ، وإن حصل الفعل من كافر، داخل بيضة الإسلام فيجب معاقبته بما يراه أولي الأمر وحسب قواعد الشرع ، وإن حصل في خارج بيضة الإسلام ، ففي ذلك نظر ، لانّ له معاني كثيرة ، فقد يكون إعلان حرب على الإسلام وبخاصة إذا كان الفعل من الحاكم الكافر نفسه ، وقد يكون من باب الحقد والكراهية ، وقد يكون من باب التعبير لرفض فعل ما ، إلى غير ذلك مما هو شائع هذه الأيام وبخاصة ، عند الدول الغربية ، والأهم من ذلك كله ، هل تُترك الشعوب على أعنتها كي تعبر عن استنكارها لهذا الفعل الشنيع ؟ والجواب : مما لا شك فيه ، أنّ هذا الفعل مما لا ترضاه أمة على وجه الأرض ، فهو فعل قبيح مستنكر، ولا يجوز أن يمر جزافا ، دون استنكار ولو في القلب وذلك أضعف الإيمان ولكن في الوقت نفسه ، لا يجوز للفرد أن يتصرف دون أمر أولي الأمر ، لأن طاعة أولي الأمر واجبة ضمنا في طاعة الله ورسوله ، فهم لم ولن يقودوا الأمة إلى التهلكة ، بل يرون ما هو الواجب فعله ، حتى لو وصل الأمر إلى إعلان الحرب .وما أقصده بالتصرف الفردي ، ليس الاستنكار أو ما شابه ذلك ، ولكن فعل شيء ما ، لا ترضاه الشريعة . والله أعلم . اللهم إن أخطأت فاغفر لي إذ الخطأ من طبع نفسي وهي جديرة به ، وإن أصبت فهو من فضلك . الدكتور محمود سليم هياجنه .
أرجو من العلماء التفاعل مع المحافظة على روح الحوار البناء وشكرا لكم