قبل ثمان وعشرين عاماً من الآن، في سبتمبر 1982، أفاق العالم على شاشات التلفزة وصفحات الجرائد ووكالات الأنباء، تتناقل صور الأيدي المبتورة، والبطون المبقورة، والأجنّة المذبوحة، والقبور الجماعيّة التّي خلّفتها ميليشيات وكتائب الجزّارين القتلة على تراب مخيمي صبرا وشاتيلاّ...
سال الدم الفلسطيني مرّة أخرى على التراب اللبناني، لكن شتّان بين المرّات السابقة وهذه المرّة، فالدم هنا دم عزّل ومدنيين أبرياء، وأطفال وشيوخ ونساء، وليس دم الفدائيين، والدم هنا دم أناس كانوا يحتمون في ملاجئ مخيماتهم التّي لا تحمي حقّاً من لسعة بعوضة، وليست دماء المقاتلين الذين ذادوا عن بيروت بدمائهم وأجسادهم ليردّوا الجنرال شارون وكلابه الجائعة خائباً ومهزوماً، والسفّاح هنا ليس الإسرائيلي الغاصب المحتّل، بل المضيف وصاحب الدار، المحسوب على العروبة بقشوره بينما اللبّ فهو صهيوني، لا بل شيطانيّ...
أكثر من 3500 جثّة، وما تشاء من عبارات التنديد والإستنكار، خلّفتنا نشعر بالغثيان، غير متأكدين إن كان هذا الغثيان سببه منظر الدماء، أم الموقف الرسميّ العربي...
كان لبنان في حينه غارقاً في النزاعات الأهلية والصراعات الطائفية، وتكاثرت الأحزاب والميليشيات المسلحة ،تسليحاً مشبوهاً، وأكاد أجزم أن مصدر السلاح لكل الأطراف المتنافرة كان واحداً، حزب الكتائب، تيار المردة، حزب الوطنيين الأحرار، حراس الأرز ،التنظيم، القوات اللبنانية، ميليشيا نمور الأحرار و ميليشيات سعد حدّاد، هذا على سبيل الذكر لا الحصر، تحالف للأحزاب المسيحية اليمينية، اختلفوا في عدة أشياء واجتمعوا على تحليل الدم الفلسطيني، الذي أصبح الحلقة الأضعف بعد خروج الفدائيين من لبنان، بعد صفقة مع الحليف الإسرائيلي!
لن تكفي بضع سطور أو بضع مقالات لإستذكار المجزرة، أو وصف المذبحة، سفّاحون بقروا بطون النساء بالسكاكين ،قتلة ذبحوا الأطفال، مجرمون أعدموا بالرصاص من حاول الفرار تمسكاً بالحياة البائسة التي كانوا يحيونها، قتلوا الرضيع في حضن أمه ، بتروا أوصال الضحايا بعد قتلها، حطموا رؤوسها، فجروها بقنابل موقوتة ،قتلوا الأطباء في مستشفى عكا، عذبوا الممرضات قبل قتلهن، أعدموا المسنين بلا رحمة، زرعوا جثث الأطفال، النساء، الرجال، والشيوخ في كل حي من أحياء مخيمي صبرا وشاتيلاّ...
بعد ثمان وعشرين عاماً من وصمة العار تلك على الجبين العربي، أضفنا عدة مجازر أخرى لتلك المجزرة، وخسرنا جزأُ أكبر من الأرض المحتلة، وأضعنا بوصلتنا الوطنية أكثر فأكثر، فماذا نحن فاعلون أن انتصبت جثةّ من تلك الجثث واقفة تُسائلنا بأيّ حق نفاوض الإسرائيلي الذي أحكم حصار المخيمات طيلة ثلاثة أيام ليعطي الفرصة لمجموعة من الذئاب البشرية من القوات اللبنانية بقيادة إيلي حبيقة، أو كما يقول البعض سعد حداد، لتسفك دماء اللآجئين الفلسطينيين؟ وتُسائلنا كيف يجد هؤلاء القتلة وأبنائهم وأقربائهم المنابر الأعلامية لبث سمومهم، والحديث بكل سفاقة ووقاحة لم يسبق لها مثيل عن أحقيتهم فيما فعلوا، وتبرير سيول الدماء التي سُفكت بحُجة معارضة التوطين، وانتقاماً لرئيسهم بشير الجميّل، الذي اغتيل قبل تسلّمه الرئاسة، على يد \"حبيب الشرتوني\" العضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي، بشير الجميّل الذي اجتمع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجن في إسرائيل ووعده باتخاذ الخطوات لبدء علاقات دبلوماسية بين لبنان وإسرائيل بمجرد أن يتسلم رئاسة الجمهورية!
ثم أن حبيب الشرتوني لبناني من مواليد عاليه بجبل لبنان، وعضو في حزب سوري، فلم الأنتقام من الفلسطينيين؟ أم أن الدم الفلسطيني أرخص من غيره، وليس له من يحميه؟ أم ليس له حرمة أو ثمن؟...
نحمد الله بأن الميت لا يعرف ما يحدث فوق قبره، لأنه لو عرف أنّ مفاوضينا الأشاوس حصروا القضية الفلسطينية في \"تأجيل\" البناء في بضع مستوطنات، وأن منفّذي المجزرة يتقلدون المناصب الوزارية والنيابية، ويمتلكون الجرائد والفضائيات التي تنضح بسمومهم وفضلاتهم، ولهم أتباع ومؤيدون يرتدون ألوانهم، على تراب شقيقهم في الجرح وحبيبهم لبنان، والله لمات ثانية وثالثة وعاشرة قهراً على دمه المُضاع... أو جابهنا بالحقيقة المرّة، أن موت الجسد أهون حالاً من موت الروح...
بشّار زيدان
لندن- بريطانيا
2010-09-15