الملوخية طبخة عريقة متشربة في أعماق تاريخنا المجيد، ويقال بأنها كانت
ذات زمان ولّى تسمى \"الملوكية\"، وذلك لعظم مكانتها عند الخليفة الحاكم
بأمر الله الفاطمي، الذي كان يجلها ويحلها مكان الصدارة في مطبخه العامر،
بل يقال إنه أصدر أمراً بمنع تناولها من جانب عوام الناس، وقصر تلك النعمة
على النخبة من علية القوم والخواص.
وللملوخية، كما يؤكد الراسخون في العلم، فوائد طبية عديدة ومديدة، فهي
مهدئة للأعصاب مقاومة للاكتئاب، وما أحوج العرب في أيامنا الغبراء إلى ما
يهدئ أعصابهم ويقاوم نزوعهم الذي لا سبيل إلى مقاومته بفعل المصائب
المتتابعة إلى الاكتئاب. وهي مفيدة للقلوب والأوعية الدموية، ولعلها تخفف
من حدة وكثافة \"الجلطات\" التي يمكن أن تقصف أعمار الكثيرين من أبناء
العروبة لفرط ما يعانون ويقاسون. وهي منشط جنسي ومعالج فعال للعقم، لذلك
لا يستحسن الإكثار من تناولها؛ إذ لا تحتاج أمة \"غثاء السيل\" إلى المزيد
من المقهورين، الذين لا يجد العرب شيئاً آخر يفعلونه بعد أن انسحبوا
تماماً من الحركة المؤثرة للتاريخ إلا قذفهم إلى شوارع البؤس والفقر. وهي
صالحة أيضاً لتليين المعدة، بعد أن أصيبت معداتنا وعقولنا بالتلبك وعسر
الهضم لهول ما نسمع ونرى من العجائب والغرائب في بلاد العرب.
وللملوخية أيضاً ـ لكن ذلك كان في الماضي الجميل المنصرم ـ إسهامها الأكيد
في تعزيز العلاقات بين النساء والجارات في الأحياء الشعبية، وتمكينهن
بإسهاب وتفصيل من تبادل خبراتهن وتناقل آخر أخبار الحي وفضائح أهله فيما
بينهن، فما تزال ذاكرتي تحتفظ بصور المرحومة أمي هي وثلة من جاراتها
القريبات والبعيدات، اللواتي كن يتجمعن غالباً في الأفنية الخارجية للبيوت
ـ طبعاً قبل إصدار القوانين التي تحظر التجمع دون إذن رسمي ـ متحلقات حول
كومة هائلة من عيدان الملوخية الطازجة التي تحتاج أوراقها إلى \"تنتيف\"؛
إذ كان من الصعب تماماً أن تتمكن سيدات عائلة واحدة بمفردها من إتمام تلك
المهمة المملة التي تحتاج إلى وقت جد طويل لإنجازها ما لم تتكاتف عشرات
الأيدي من أجل إتمامها.
وللملوخية علاقة وثيقة لا ينبغي نسيانها أو تناسيها بقضية الوحدة الوطنية
لسكان مدينة \"كشرستان\"، فقد اتخذت من جانب سائر مواطني المدينة، على
اختلاف أصولهم ومنابتهم، رمزاً بارزاً من رموز وحدتهم وتآخيهم، وإن كان
ذلك بصورة لا تخلو من الظرافة، فلطالما تندر السكان الأصليين للمدينة بأن
إخوتهم ممن التحقوا بهم بإحسان لسكنى المدينة لم يجلبوا معهم عند قدومهم
إلا الملوخية، التي لم تكن معروفة سابقاً في المدينة على ما يبدو كطعام
بشري مستساغ.
الملوخية أيضاً كانت تستخدم عيدانها الجافة من جانب الصغار الأشقياء
كبدائل رمزية عن السكائر، مع ما كان يجلبه عليهم ذلك من عقاب الأهل
المتيقظين والحريصين فعلاً على أطفالهم. لكن ذلك كان في زمن بعيد قبل أن
يغدو تعاطي النرجيلة، وليس مجرد السكائر، ممارسة مألوفة ومقبولة من جانب
كثير من الأطفال، وبمباركة واستلطاف من ذويهم.
الحكومة الرشيدة في الأردن بقرارها الجديد الرامي إلى إخضاع الصحافة
الإلكترونية إلى قانون المطبوعات والنشر تريد أن ترتقي بسوية الكتّاب، وأن
تجبرهم على أن لا تتناول مقالاتهم إلا الموضوعات البالغة الأهمية وحسب، من
قبيل الدور الوطني الحاسم الذي تلعبه الملوخية على صعيد تعزيز التنمية
البشرية المستدامة. لذلك لم أجد ما أكتب عنه اليوم أهم من الملوخية، وحتى
مقال قريب عن \"المسقعة\"، أرجو أن تكون شهيتكم قد أثيرت لالتهام طبق ساخن
من تلك الطبخة الفاخرة، مع تذكر وجوب وضع حبة طماطم في القدر عند طبخها،
فذلك يضمن تشتيت المادة الرغوية اللزجة التي قد يثير تركزها ومن ثم
تناولها غثيان المعدة، تماماً كما قد يحدث للمرء عند تذكر القرار الحكومي
الحكيم.
د. خالد سليمان
sulimankhy@gmail.com