كموعدٍ مع الشمس .. أمضيتُ ليلتي ساهرة ً حالمة ، يؤرقني حبٌّ قديم اختلج بصدري ممزوجٌ بألم الفراق والرحيل ، غلبتني الدموع تلك الليلة ، نمت فجرا لأستيقظ بعد ساعتين على أصوات اخوتي ، الكلّ جاهزٌ سواي ، كنت احاول نفض ذكريات الليلة الماضية عني فإذا بي تورطتُ بها أكثر فأكثر بأحزانها وشاعريتها ، اتفحص وجهي بالمرآة فأراني لاهثة وكأني أحاول الهروب من أحد أو اللحاق بأحد هوحلمٌ ما ... هو حلم ٌ وحياه.....كانت عيناي متورمتان لكثرة البكاء ، أن تبكي فراقا وشيكا ، انه لأمرٌ يشبه الانتحار ، فأنت من يختار الابتعاد.....أن تكتم حبّا وتحملهُ معك وفيك كل هذه السنوات, ان تخفيه وتحاول الهروب منه إليه ..... ثم فجأة يظهر لك بحلةٍ جديدة ليهديك تذكرة العودة للحياة من جديد , موعدٌ في وضح النهار.....كنت مرهقة بما فيه الكفاية .....ولكني سعيدة لكسر الروتين.....علني اتعافى قليلا من قلقي واضطرابي, علني أعتصر بعضا من الأفكار......لأكتبها تمهيدا لبدايةٍ جديدة.
ارتديت ملابسي على عجل ..وانطلقنا,لكني فوجئت بتغيير مسار الرحلة فإذا بنا نذهب لنعايد على عمتي ..عمتي هذه انسانة شامخة صامدة عيناها تحتضنان الكبرياء بعنف ترى فيهما مزيجا رائعا من الموت والحياة من الظلام والنور ..يا لها من امرأة جميلة بصمودها بإرادتها الجامحة للحياة من جديد ...رغم كل ما ذاقته من الويل والألم تراها وقد عانقت الفرح بكلتا يديها عانقتهُ لأنها تريد أن تنسى أن تُشفى ...أن تبدأ ...وأن ترفض النهايات,حينها وجدتني أتلاشى امامها أذوب رويدا رويدا بدفء روحها واشتعال رغبتها ..أحالتني إلى ترابٍ وماءْ...يا لها من امرأة ويالها من حياة ..ودعتها وفي عيني امتنانٌ ودموع شكرٍ فقد جعلتني أعيد ارتباطاتي بالحياة...شكرا لكِ شكرا لعينيكِ ولهذا القلب الدافئ ولروحك المتقدة ..ركبنا السيارة الصفراء ...لتأخذنا إلى بداية الطريق..حينها عرفت كم نحن غرباء..وكم أن الأوطان سريعة التغير في غياب أهلها, وادركت أننا تائهون في وطنٍ هو لنا ونحنُ منه...ولكنه لوهلة أصبح الغريب وأصبحنا الغرباء.
وصلنا هكذا قال ..قالها بصوتٍ ساخر صفعنا بالحقيقة فنحن لسنا سوى... زوار ..
ركبنا ( الفورد) هي حافلة تتسع لسبعةِ اشخاص ،كنا ستة وانتظرنا الراكب الغريب ليشاركنا هذه المسافة وهذه التجربة التي ربما سئمها لكثرة ما مرّ بها...وتحركت الحافلة وتحركت معها عواطفي واحاسيسي كانت متماوجة بصورة مخيفة ، أأفكر بجدتي التي يعتصرها الحزن وهي تذوي امامي بثوب الحداد، أم بجدي الغائب الوحيد بيننا ، لم اعد أصدق أننا ولأول مرة لا نعايده لنقول كل عام وانت بخير واذا به تحت التراب.أم بعمتي وصمودها العجيب رغم الزلزال ، أم بك وبي وبهذا الشيء الذي يحدث بعيدا عن هنا ...
كم ترهقني الحياة..وكل هذه الاحتمالات, اصابني الزكام فجأة, اننا نمرض حين نفكر بمن نحب, ولكن لا أحد يقرّ بهذه الحقيقة حتى أعظم الأطباء, وصلنا المهد, لتكون تمهيدا لحلمي ولحياةٍ اوشك عليها, مهد المسيح هكذا يسمونها أدخلها في كلّ مرة وكأنها المرّة الأولى, وكأنني في كل مرة أعيد اكتشاف أننا علينا ان ننحني كي نستطيع العبور وكأن هذا المدخل صمم خصيصا ليكون المؤشر الأول بأن عليك الانحناء فأنت في بيت الله, ننزل إلى ذاك المكان المنخفض جدا, مكان ميلاد المسيح تصيبني تلك الدهشة وكأنها المرة الأولى, مكان ضيقٌ مظلم لولا كثرة الشموع المضاءة به، لضعت ُ عن أهلي كفتاة في الخامسة من حزنها، تخنُقْ هوائه رائحة البخور والعطور أدخنة تخنق الأوكسجين شيئا فشيئا ليفرّ صاعدا للأعلى ويأبى الهبوط, وكذلك أنا, لا أدري لما في كلّ مرّة تراودني تلك الأفكار ذاتها ما الذي يجعل هذا المكان تحديدا بقعة الميلاد وليس ذاك ولما هذا الشبر لا هذا.
ادرك في قراراتي ان لا شيء أسهل من تزوير الأماكن ، كثيرين منا يمتلكون شهادات ميلادٍ مزورة تقول أنهم ولدوا هناك لا هنا ..في بيت لحم لا في عمان.....في القدس لا في الخليل ....نتعايش مرغمين مع كذبنا وخداعنا ..ولا ينقصنا شيء سوا شهادة وفاة مزورة تكمل رحلتنا التمثيلية في هذه الحياةربما لم نكن هنا في المهد ..كانت الكنيسة مكتظة ..يقال بأنه موسم الحج ..المسيحيون يملؤون المكان من تشلي والبرتغال من اندونسيا واليابان من فرنسا وروسيا ومن كل البقاع...اضف إلى الكثير من الملسمين الذين يتواجدون إما للمشاهدة او المساعدة.
والدي رجلٌ منفتح ..أراهُ في كل تحركاته ومصافحاته يدعو للسلم بين المسيحية والاسلام مؤكدا على الانسانية قبل كل شيء ، لربما لهذا يحب أن يأخذنا إلى الكنيسة في كل عام ليغرس فينا روح السلام الديني...اذكر يوم كنت في المرحلة الابتدائية في السادس تقريبا ... كنت ما ان اصل إلى بيت لحم حتى اصاب بالضيق والاختناق خوفا من رؤية الصليب........ياااه كم أضحك الآن من ذاك الفكر االذي اعتنقته لفترة طويلة نتيجة لطبيعة التعليم السعودي التب كنت اتلقاها...لذا يحرص والدي دائما على ان نكون منفتحين على الآخر متقبلين له مهما كان، لطالما حذرني من الرفض قال لي لا ترفضي انسان فهو انسان قبل كل شيء...في بيت لحم مقابل كل هلالٍ صليب، هي هكذا تعلن التحدّي ، لنكون سويا لنعيش بسلام مسلمين ومسيحيين ، في بيت لحم يمتزج صوت آذان المساجد بقرع ناقوس الكنيسة هب هكذا.
ها هو الظهر ننطلق لنصلي في مسجد عمر بن الخطاب ، في بيت لحم لا يهمك مع من تتعامل فهو انسان وانت كذلك ..لذا اجد بأن التفسير منطقي جدا لاختيار هذه المدينة لتكون مقرا لمركز السلام ..في أزقة بيت لحم القديمة تجدك امام رحلةٍ اجبارية في تاريخ هذه المدينة ومبانيها القديمة كنائسها ومساجدها مغاراتها وحقولها لذا فأنت على موعدٍ مع التاريخ والدين معا...مغارة الحليب ..تلك الكنيسة الصغيرة التي تتخذ من المغارة سقفا لها ..كم جميلة تلك الحواديت التي يرويها كلٌّ عن دينه ...حدثنا الخوري فقال : بأنّ هذه المغارة هي المكان الذي أرضعت به السيدة العذراء مريم نبي الله عيسى عليه السلام وفي اثناء ذلك سقطت قطرتا حليب على أرض المغارة فاستحالت حجارة المغارة إلى اللون الأبيض...يقولون: بأنّك لو تلمست مابين الصخور فسوف تحصل على الحليب حقيقةً هي مادة بيضاء تشبه البودرة ربما هي فتات صخور او حليبٌ كما يقولون...طال الحديث والجدل والنقاش حول ماهية الصخور وحقيقة رواية الحليب الأهم من ذلك كله ايمانهم باعجاز الله وكما قال الخوري: (كل واحد على دينه الله يعينه).
خرجنا ونحن سعداء بهذا الجدال المنصف فكلانا خرج راضٍ بلا هزائم تذكر...عدنا إلى ذاك الزقاق الذي يجبرني مرغمة على الحلم والخيال والرحيل عبر الزمان ، في هذا الزقاق الضيق تكثر المتاجر الأثرية ،وكأنها تذكرك ان كنت نسيت بأن التاريخ مرّ من هنا ..أعلم أن التسلسل ليس منطقي فالتسلسل التاريخي كان يقتضي بنا ان نبدأ بحقل الرعاء فالمهد ثم المغارة...المهم أننا ذهبنا لحقل الرعاة ..أجمل ما بهذا الحقل هو تلك الكنيسة الصغيرة التي تنتصفه ، واجمل ما فيها تلك اللوحات التي رسمت على الأقواس تجبرك على تأملها أكثر فأكثر لتجد نفسك فجأة فيها ، إن نقش مثل هذه اللوحات الثلاثية الأبعاد على قوس نصفهُ يحتضنك يجعلك تعيش الحدث أكثر فأكثر...فإذا أنت مع الرعاة وهم يشاهدون نجمة الميلاد يتراكضون مستبشرين ،ثم تجدك مع السيدة العذراء وهي تضع عيسى وقربها النخلة تظللها وتحن عليها ، ثم مع الكهنة وهم يستمعون للمسيح وهو يتكلم في حجر أمه ، يا لها من تجربة جميلة انها رحلة عبر الصور يا له من فن ...كنت أتأملها بعمق ,افكر كيف أن الفن يخدم الدين وكيف انهما لا يفترقان ..هنا على مقعدٍ حجري جلسنا لنتحادث ..كم فرقتنا الحياة وغيرتنا هي وقد أصبحت زوجة وأم ، وأنا التائهة فيك..أتمنى لو اصرخ لو اصرح للعالم كلّه أني سأنتظرك حتّى آخر أيام حياتي كلما شاهدت طفلا كان طفلنا هو الأجمل وكنت أنت الضوء الذي يشع في سمائي...بقينا على حالاتنا نتسامر انا وخالتي الصغيرة واما البقية فقد ذهبوا لاكتشاف الحقل أكثر ..تجمعنا من جديد وكان الجوع قد تمكن منّا ، فقررنا الذهاب لمطعم لتناول الغداء...دخلنا ذاك المطعم المدهش بصغره وبتناقضه هو مرتفعٌ منخفض كان قريبا منا فإذا نحن بعيدين عنه جزءٌ منه ملتصقٌ في الأرض والآخر معلقٌ في السماء لنرى من ارتفاعٍ شاهق بيت لحم امامنا والقدس عن يسارنا هذه هي الجبال وسر روعتها في الدهشة التي تخلقها فيك.
كم جميلٌ هذا المشهد انها فلسطين بجمالها وجلالها تجتمع أمامك كلوحة متعددة الألوان لا تعرف اين تبدأ لتنتهي.
عدت محملة بمزيجٍ رائع من الحلم ومن الوطن الغائب عني الراحل بي ، من الحب ووعودٍ جديدة في الاستمرار حتى النهايات التي لا نهاية لها لتكن الأسطورة...... وليكن الصبر...سأنتظر الأقدار
عبلة جابر