د. مراد الكلالدة/ مختص في التخطيط الإقليمي والحضري
الدولة الاردنية حديثة العهد نشأت في فترة تاريخية عصيبة تلت معاهدة سيكس-بيكو التي قسمت الدولة العثمانية الى اقطار ضعيفة وضعت غالبيتها في مواجهة اسرائيل التي زادت من مشاكلها وحدت من مسيرتها التنموية. والحق يقال في ان الملك الراحل الحسين بن طلال قد نقل الاردن من الا شيء الى مصاف الدول النامية وذلك عن طريق انتهاج سياسة تخطيطية حصيفة ساعده فيها اخيه سمو الأمير الحسن بن طلال الذي اعتنى بالتخطيط من باب الرغبة بهذا العلم الواسع وتعاونه مع كبرى الدول في هذا المجال مثل المانيا واليابان. وقد استطاع هذا التخطيط ان يرسي القواعد التي قامت عليها الدولة فتم التركيز على ما توفر من موارد ذاتية مثل الفوسفات والبوتاس وانشئت شركات وطنية مساهمة عامة وتم التركيز على مد الطرق الرئيسية وتنفيذ شبكة كهرباء وطنية وتشغيل شركة اتصالات مملوكة للدولة، كل هذا وخلافه مما لا يتسع المجال لذكره جعل من الاردن دولة بكل معنى الكلمة حتى سبقت العديد من الدول المجاورة وحتى النفطية منها في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية. هذه السياسة اتت من رحم النظام الملكي الأردني فلم تكن إشتراكية ولا رأسمالية بل كانت سياسة وطنية حقيقية استغلت الموقع الجغرافي للأردن والخصوصية السياسية كمنطقة محاذية لإسرائيل لتجعل من البلد مكانا يحلو العيش فيه.
بانتقال السلطة السلس الى الملك الشاب الذي نجل ونحترم الملك عبد الله الثاني ابن الحسين شعر المواطن بان هناك تغيرا جذريا في الفكر التخطيطي بين المرحلتين فاستند الفكر الحالي الى وجوب اتباع نظام السوق الرأسمالي البحت ووجوب انسحاب الدولة من جميع النشاطات الاقتصادية لصالح القطاع الخاص فدور الدولة يجب ان يكون رقابي وتشريعي بينما يقوم القطاع الخاص الأجنبي منه والوطني بتحريك التنمية وخلق فرص العمل. ولتنفيذ هذا التوجهه تم الاتيان بشخوص من هذا التيار ووضعوا في مواقع رئيسية ابتداء من رئاسة الحكومة وصولا ان اكثر المناصب حساسية في الدولة حتى اصبحت مؤسسات الأمن تستثمر في الأراضي والعقارات وفي المحطات الإذاعية.
وتنفيذا للرؤية نفسها انشئت اولى المناطق الخاصة في العقبة على امل ان تكون مثالا يحتذى في التنمية وذللت غالبية العقبات في طريق المنطقة الخاصة وتم الاستغناء عن ايراداتها المالية التي كانت تورد للخزينة سابقا وذلك من اجل ان تقف المنطقة على قدميها ولتعتمد كنموذج يعمم على باقي مناطق المملكة.
وعندما لاحظ كبار الموظفين في السلطة اتساع الصلاحيات الممنوحة اليهم وقلة الرقابة المالية على عملهم نشطوا في الترويج الى تعميم الفكرة على باقي مناطق المملكة وبسرعة تفوق عشرات المرات المدة المخطط لها في الدراسة الأصلية المعمولة من قبل شركة الخدمات التقنية TSG والتي حملها وزير تطوير القطاع العام الحالي لسنوات في حقيبته اليدوية ابان تأسيسه لسلطة العقبة الخاصة. وبهذا انشئت أولى المناطق التنموية في معان ومن ثم اربد فالمفرق فالبحر الميت فعجلون والعبدلي والمدينة الطبية بعمان بتسارع مذهل تسابق فيه الشخوص على ملء الشواغر في المكاتب الفارهة التي وضعت تحت تصرفهم دفعة واحدة.
ومع كل الإحترام للجهود الكبيرة التي بذلها الرؤساء والمفوضين ومدراء شركات التطوير فإنه يلاحظ ان الدولة قد فقدت بوصلتها التخطيطية، فكيف تتبنى الدولة فكرة اللامركزية وتود تخويل الصلاحيات للأقاليم والبلديات وهي مستمرة في دعم وإنشاء المناطق التنموية؟ افلا يحق لنا نحن المخططين ان نسأل كيف ستدار الأمور على ارض الواقع بين هذه السلطات ولأية قوانين أوانظمة أوتعليمات ستكون الغلبة؟ ولهذا فإننا نرى في قرار مجلس الوزراء الأخير خطوة في الإتجاه الصحيح لدمج المؤسسات المتشابهة وندعو الرئيس الشاب الى تفعيل دور وزارة التخطيط وإحياء دائرة التخطيط الإقليمي فيها من جديد لتعمل على مناقشة الخريطة الاستثمارية للبلد وبمساعدة البرامج الحاسوبية المتوفرة لديهم وبدعم من الأصدقاء من الدول الخبيرة في هذا المجال.